نزلت في خزاعة حيث قالوا الملائكة بنات اللّه. نزه ذاته عن ذلك، ثم أخبر عنهم بأنهم عباد والعبودية تنافى الولادة، إلا أنهم مُكْرَمُونَ مقرّبون عندي مفضلون «١» على سائر العباد، «٢» لما هم عليه من أحوال وصفات ليست لغيرهم، فذلك هو الذي غرّ منهم من زعم أنهم أولادى، تعاليت عن ذلك علوا كبيرا. وقرئ مكرّمون. ولا يَسْبِقُونَهُ بالضم، من : سابقته فسبقته أسبقه. والمعنى : أنهم يتبعون قوله ولا يقولون شيئا حتى يقوله، فلا يسبق قولهم قوله. والمراد :
بقولهم، فأنيب اللام مناب الإضافة، أى لا يتقدّمون قوله بقولهم، كما تقول : سبقت بفرسي فرسه، وكما أنّ قولهم تابع لقوله، فعملهم أيضا كذلك مبنى على أمره : لا يعملون عملا ما لم يؤمروا به. وجميع ما يأتون ويذرون مما قدّموا وأخروا بعين اللّه، وهو مجازيهم عليه، فلإحاطتهم بذلك يضبطون أنفسهم، ويراعون أحوالهم، ويعمرون أوقاتهم. ومن تحفظهم أنهم لا يجسرون أن يشفعوا إلا لمن ارتضاه اللّه وأهله للشفاعة في ازدياد الثواب والتعظيم، ثم أنهم مع هذا كله من خشية اللّه مُشْفِقُونَ أى متوقعون من أمارة ضعيفة، كائنون على حذر ورقبة «٣» لا يأمنون مكر اللّه. وعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج ساقطا كالحلس «٤» من خشية «٥» اللّه، وبعد أن وصف كرامتهم عليه، وقرب منزلتهم عنده، وأثنى
(١). قال محمود :«معناه مكرمون مفضلون على سائر عباد اللّه» قال أحمد : وهذا التفسير من جعل القرآن تبعا للرأى، فانه لما كان يعتقد تفضيل الملائكة على الرسل نزل الآية على معتقده، وليس غرضنا إلا بيان أنه حمل الآية ما لا تحتمله، وتناول منها ما لا تعطيه، لأنه ادعى أنهم مكرمون على سائر الخلق لا على بعضهم، فدعواه شاملة ودليله مطلق، واللّه الموفق.
(٢). قوله «مفضلون على سائر العباد» هذا عند المعتزلة، وبعض البشر أفضل منهم عند أهل السنة. (ع) [.....]
(٣). قوله «و رقبة» بالكسر، أى : انتظار. أفاده الصحاح. (ع)
(٤). قوله «كالحلس» بكسر فسكون. أو بفتحتين : كساء رقيق يكون تحت البرذعة أو تحت الرحل. أفاده الصحاح. (ع)
(٥). أخرجه ابن خزيمة من رواية مرة عن ابن مسعود «أن النبي صلى اللّه عليه وسلم ذكر سدرة المنتهى - الحديث» قال فوقع جبريل فصار كالحلس الملقى» إسناده قوى. وغلط ابن الجوزي في تضعيفه لمحمد بن ميمون شيخ ابن خزيمة، فانه ثقة - وفي الطبراني الأوسط وتفسير ابن مردويه من رواية عبد الكريم الجزري عن عطاء عن جابر رفعه «مررت في السماء الرابعة بجبريل، وهو كالحلس البالي من خشية اللّه» إسناده قوى. وروى ابن خزيمة في التوحيد وابن سعد وسعيد بن منصور والبزار والبيهقي في الشعب والدلائل والطبراني في الأوسط، كلهم من رواية أبى قلابة الحارث بن أبى عمران الحوفى عن أنس رفعه «بينما أنا قاعد إذ جاء جبريل. فوكز بين كتفي فقمت إلى شجرة فيها كوكرى الطائر فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر. فسمت بنا فارتفعت حتى سدت الخافقين وأنا أقلب طرفى. ولو شئت أن أمسس لمسست. فالتفت إلى جبريل كأنه حلس لاطئ. فعرفت فضل علمه باللّه علىّ. وفتح لي باب من أبواب السماء فرأيت النور الأعظم - الحديث» قال البزار : لا نعلم رواه عن أبى عمران إلا الحرث بن عبيد وقال غيره : خالفه حماد بن سلمة عن أبى عمران إلا الحرث بن عبيد وقال غيره : خالفه حماد ابن سلمة عن أبى عمران. فقال : عن محمد بن عمير بن عطاء مرسلا كذلك أخرجه ابن المبارك في الزهد عن حماد.
وفي رواية «فعرفت فضل خشيته على خشيتي» وزاد فيه فأوحى اللّه إليه أنبيا عبدا أم نبيا ملكا. فاومأ إلى جبريل عليه السلام : بل نبيا عبدا.