لأنه في معنى : فإذا استويتم؟ قلت : لأنه نبيهم وإمامهم، فكان قوله قولهم، مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوّة وإظهار كبرياء الربوبية، وأن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلا ملك أو نبىّ. وقرئ : منزلا، بمعنى إنزالا، أو موضع إنزال، كقوله :
ليدخلنهم مدخلا يرضونه. إِنَّ هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بين النافية وبينها في المعنى، وإن الشأن والقصة كُنَّا لَمُبْتَلِينَ أى مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد.
أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا لننظر من يعتبر ويذكر، كقوله تعالى : وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٣١ إلى ٣٢]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢)
قَرْناً آخَرِينَ هم عاد قوم هود : عن ابن عباس رضى اللّه عنهما. وتشهد له حكاية اللّه تعالى قول هود : وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ومجيء قصة هود على أثر قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء. فإن قلت : حق أرسل أن يعدى بإلى، كأخواته التي هي : وجه، وأنفذ، وبعث. فما باله عدّى في القرآن بإلى تارة، وبقي أخرى، كقوله :
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ، وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ. فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا أى في عاد. وفي موضع آخر وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً؟ قلت : لم يعدّ بفي كما عدّى بإلى، ولم يجعل صلة مثله، ولكن الأمّة أو القرية جعلت موضعا للإرسال، كما قال رؤبة :
أرسلت فيها مصعبا ذا إقحام «١»
وقد جاء «بعث» على ذلك في قوله وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً. أَنِ مفسرة لأرسلنا، أى : قلنا لهم على لسان الرسول اعْبُدُوا اللَّهَ.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٣٣ إلى ٣٤]
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤)
(١) أرسلت فيها مصعبا ذا إقحام طبا فقيها بذوات الابلام
لعطاه السندي. ويقال : أصعب الجمل فهو مصعب، إذا صار صعبا لا يركب. والاقحام : الدخول في الشيء بلا تمهل ولا روية. ويروى : أرسلت فيها مقرما ذا تشمام. وأقرمته : شوقته إلى الضراب. ونحوه : ذا تشمام، أى :
يتشمم رائحة الناقة التائقة للضراب فيعرفها. والطب - مثلث - : الطبيب الحاذق. وأبلمت الناقة إبلاما : إذا ورم فرجها من شدة الشهوة إلى الضراب. والبلم - كسبب - : اسم منه. ويجوز أن ما هنا أبلام كأسباب، فالمعنى : أنه أرسل في الإبل فحلا كريما يقدم عليها من غير تلبث. أو يتشممها ويتعرفها حاذقا عارفا بالنوق التائقة إليه. ويجوز أن المعنى : أرسلت في تلك القضية رجلا كالجمل الشديد، ذا إقدام على الأمر بجراءة، فقيها عارفا بمعالجة الأشياء الصعبة ذوات الأعضال، وبحل مشكلاتها، فهو في غاية المعرفة والتجربة.