وروى في أنّ ضبة كان مسلما، وكان على شرطة سليمان بن داود أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا محمدا وصحة نسبه، وحلوله في سطة هاشم، وأمانته، وصدقه، وشهامته، وعقله، واتسامه بأنه خير فتيان قريش، والخطبة التي خطبها أبو طالب في نكاح خديجة بنت خويلد، كفى برغائها مناديا.
الجنة : الجنون وكانوا يعلمون أنه بريء منها وأنه أرجحهم عقلا وأثقبهم ذهنا، ولكنه جاءهم بما خالف شهواتهم وأهواءهم، ولم يوافق ما نشأوا عليه، وسيط بلحومهم «١» ودمائهم من اتباع الباطل، ولم يجدوا له مردّا ولا مدفعا لأنه الحق الأبلج والصراط المستقيم، فأخلدوا إلى البهت وعوّلوا على الكذب من النسبة إلى الجنون والسحر والشعر. فإن قلت : قوله وَأَكْثَرُهُمْ فيه أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق. قلت : كان فيهم من يترك الإيمان به أنفة واستنكافا من توبيخ قومه وأن يقولوا صبأ وترك دين آبائه، لا كراهة للحق، كما يحكى عن أبى طالب «٢». فإن قلت :
يزعم بعض الناس أنّ أبا طالب صحّ إسلامه. قلت : يا سبحان اللّه، كأن أبا طالب كان أخمل أعمام رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، حتى يشتهر إسلام حمزة والعباس رضى اللّه عنهما، ويخفى إسلام أبى طالب.
(١). قوله «و سيط بلحومهم» أى : وخلط. (ع)
(٢). قال محمود :«فان قلت أكثرهم يعطى أن أقلهم لا يكره الحق، وكيف ذلك والكل كفرة؟ قلت : فيهم من أبى الإسلام حذرا من مخالفة آبائه ومن أن يقال صبأ كأبى طالب، لا كراهة للحق» قال أحمد : وأحسن من هذا أن يكون الضمير في قوله : وَأَكْثَرُهُمْ على الجنس للناس كافة، ولما ذكر هذه الطائفة من الجنس بقي الكلام في قوله وَأَكْثَرُهُمْ على الجنس بجملته، كقوله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وكقوله وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ويدل على ذلك قوله تعالى بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ والنبي صلى اللّه عليه وسلم جاء الناس كلهم وبعث إلى الكافة. ويحتمل أن يحمل الأكثر على الكل كما حمل القليل على النفي واللّه أعلم. وأما قول الزمخشري - : إن من تمادى على الكفر وآثر البقاء عليه تقليدا لآبائه «ليس كارها للحق - فمردود، فان من أحب شيئا كره ضده، فإذا أحبوا البقاء على الكفر فقد كرهوا الانتقال عنه إلى الايمان ضرورة، واللّه أعلم، ثم انجر الكلام إلى استبعاد إيمان أبى طالب. وتحقيق القول فيه أنه مات على الكفر، ووجه ذلك بأنه أشهر عمومة النبي صلى اللّه عليه وسلم، فلو كان قد أسلم لاشتهر إسلامه، كما اشتهر إسلام العباس وحمزة وأجدر لأنه أشهر، وللقائل بإسلامه أن يعتذر عن عدم شهرته بأنه إنما أسلم قبيل الاحتضار، فلم يظهر له مواقف في الإسلام يشتهر بها كما ظهر لغيره من عمومته عليه الصلاة والسلام. هذا والظاهر أنه لم يسلم. وحسبك دليلا على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : سألت اللّه تعالى فيه، وأنه بعد ذلك لفي ضحضاح من نار يغلى رأسه من قدميه. فإن قيل : لا يلزم من ذلك موته على الكفر، لأن كثيرا من عصاة الموحدين يعذب بأكثر من ذلك.
قلنا : من أثبت إسلامه ادعى أن ذلك كان قبيل الاحتضار، فالإسلام جب ما قبله، وتلك الدقيقة التي صار فيها من المسلمين لا تحتمل من المعاصي ما يوجب ذلك، واللّه أعلم.