تمام استيفائه قبلت شهادته، فإذا استوفى لم تقبل شهادته أبدا وإن تاب وكان من الأبرار الأتقياء.
وعند الشافعي رضى اللّه عنه : يتعلق ردّ شهادته بنفس القذف، فإذا تاب عن القذف بأن رجع عنه، عاد مقبول الشهادة. وكلاهما متمسك بالآية، فأبو حنيفة رضى اللّه عنه جعل جزاء الشرط الذي هو الرمي : الجلد، وردّ الشهادة عقيب الجلد على التأييد، فكانوا مردودى الشهادة عنده في أبدهم وهو مدة حياتهم، وجعل قوله وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ كلاما مستأنفا غير داخل في حيز جزاء الشرط، كأنه حكاية حال الرامين عند اللّه بعد انقضاء الجملة الشرطية.
وإِلَّا الَّذِينَ تابُوا استثناء من الفاسقين. ويدل عليه قوله فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ والشافعي رضى اللّه عنه جعل جزاء الشرط الجملتين أيضا. غير أنه صرف الأبد إلى مدة كونه قاذفا، وهي تنتهي بالتوبة والرجوع عن القذف وجعل الاستثناء متعلقا بالجملة الثانية. وحق المستثنى عنده أن يكون مجرورا بدلا من «هم» في «لهم» وحقه عند أبى حنيفة رضى اللّه عنه أن يكون منصوبا لأنه عن موجب، والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط، كأنه قيل : ومن قذف المحصنات فاجلدوهم وردّوا شهادتهم وفسقوهم أى : فاجمعوا لهم الجلد والردّ والتفسيق، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإنّ اللّه يغفر لهم فينفلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسقين. فإن قلت. الكافر يقذف فيتوب عن الكفر فتقبل شهادته بالإجماع، والقاذف من المسلمين يتوب عن القذف فلا تقبل شهادته عند أبى حنيفة رضى اللّه عنه، كأن القذف مع الكفر أهون من القذف مع الإسلام؟ قلت : المسلمون لا يعبئون بسب الكفار، لأنهم شهروا بعداوتهم والطعن فيهم بالباطل، فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر من الشين والشنار ما يلحقه بقذف مسلم مثله، فشدّد على القاذف من المسلمين ردعا وكفا عن إلحاق الشنار «١». فإن قلت : هل للمقذوف أو للإمام أن يعفو عن حدّ القاذف؟ قلت : لهما ذلك قبل أن يشهد الشهود ويثبت الحدّ، والمقذوف مندوب إلى أن لا يرافع القاذف ولا يطالبه بالحدّ. ويحسن من الإمام أن يحمل المقذوف على كظم الغيظ ويقول له : أعرض عن هذا ودعه لوجه اللّه قبل ثبات الحدّ : فإذا ثبت لم يكن لواحد منهما أن يعفو لأنه خالص حق اللّه، ولهذا لم يصح أن يصالح عنه بمال. فإن قلت : هل يورث الحدّ؟ قلت : عند أبى حنيفة رضى اللّه عنه لا يورث، لقوله صلى اللّه عليه وسلم «الحدّ لا يورث» وعند الشافعي رضى اللّه عنه يورث، وإذا تاب القاذف قبل أن يثبت الحدّ سقط.
وقيل : نزلت هذه الآية في حسان بن ثابت رضى اللّه عنه حين تاب مما قال في عائشة رضى اللّه عنها.
(١). قوله «الشنار» في الصحاح «الشنار» العيب والعار. (ع)