جعل اللّه التفصلة بين الرمي الصادق والكاذب : ثبوت شهادة الشهود الأربعة وانتفاءها، والذين رموا عائشة رضى اللّه عنها لم تكن لهم بينة على قولهم، فقامت عليهم الحجة وكانوا عِنْدَ اللَّهِ أى في حكمه وشريعته كاذبين. وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك فلم يجدوا في دفعه وإنكاره، واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع : من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة، والتنكيل به إذا قذف امرأة محصنة من عرض نساء المسلمين، فكيف بأمّ المؤمنين الصدّيقة بنت الصدّيق حرمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحبيبة حبيب اللّه؟
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١٤ إلى ١٥]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥)
لو لا الأولى للتحضيض، وهذه لامتناع الشيء لوجود غيره. والمعنى : ولولا أنى قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة، وأن أترحم عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك. يقال : أفاض في الحديث، واندفع، وهضب، وخاض إِذْ ظرف لمسكم، أو لأفضتم تَلَقَّوْنَه ُ
يأخذه بعضكم من بعض. يقال : تلقى القول وتلقنه وتلقفه. ومنه قوله تعالى فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ وقرئ على الأصل : تتلقونه. وإذ تلقونه، بإدغام الذال في التاء «١». وتلقونه، من لقيه بمعنى لقفه. وتلقونه، من إلقائه بعضهم على بعض. وتلقونه وتألقونه، من الولق والألق : وهو الكذب. وتلقونه : محكية عن عائشة رضى اللّه عنها، وعن سفيان : سمعت أمى تقرأ : إذ تثقفونه «٢»، وكان أبوها يقرأ بحرف عبد اللّه بن مسعود رضى اللّه عنه. فإن قلت : ما معنى قوله بِأَفْواهِكُمْ والقول لا يكون إلا بالفم؟ قلت : معناه أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب، فيترجم عنه اللسان «٣». وهذا الإفك ليس إلا قولا يجرى على ألسنتكم ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم به في القلب، كقوله تعالى يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ،

__
(١). قوله «و إذ تلقونه» لعل رسمه هكذا «و اتلقونه» إلا أن يعتبر ما قبل الإدغام. (ع)
(٢). قوله «سمعت أمى تقرأ إذا تثقفونه» وفي نسخة تنقفونه، بمعنى تتبعونه، وكلا النسختين قراءة. (ع)
(٣). قال محمود :«إن قلت القول لا يكون إلا بالأفواه، فما فائدة ذكرها؟ قلت : المراد أن هذا القول لم يكن عبارة عن علم قام بالقلب، وإنما هو مجرد قول اللسان» قال أحمد : ويحتمل أن يكون المراد المبالغة، أو تعريضا بأنه ربما يتمشدق ويقضى تمشدق جازم عالم، وهذا أشد وأقطع، وهو السر الذي أنبا عنه قوله تعالى قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ واللّه أعلم.


الصفحة التالية
Icon