أجابوا به، حتى يبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم، فيبهتوا «١» وينخذلوا وتزيد حسرتهم، ويكون ذلك نوعا مما يلحقهم من غضب اللّه وعذابه، ويغتبط المؤمنون ويفرحوا بحالهم ونجاتهم من فضيحة أولئك، وليكون حكاية ذلك في القرآن لطفا للمكلفين. وفيه كسر بين لقول من يزعم «٢» أن اللّه يضل عباده على الحقيقة «٣»، حيث يقول للمعبودين من دونه : أأنتم أضللتموهم، أم هم ضلوا بأنفسهم؟ فيتبرءون من إضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين، ويقولون : بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم، فجعلوا النعمة التي حقها أن تكون
__
(١). قوله «فيبهتوا» يدهشوا. أو يتحيروا. أفاده الصحاح (ع)
(٢). قوله «لقول من يزعم أن اللّه... الخ» يريد أهل السنة القائلين : إضلال اللّه لعباده خلق الضلال في قلوبهم، خلافا للمعتزلة القائلين : أنه تعالى لا يخلق الشر ولا يريده. (ع)
(٣). قال محمود :«في هذه الآية كسر بين لمن يزعم أن اللّه تعالى يضل عباده حقيقة، حيث يقول للمعبودين من دونه : أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء، أم هم ضلوا بأنفسهم؟ فيتبرءون منهم ويستعيذون مما نسب إليهم، ويقولون : بل تفضلك على هؤلاء أوجب أن جعلوا عرض الشكر كفرا، فإذا برأت الملائكة والرسل أنفسهم من ذلك. فهم للّه أشد تبرئة وتنزيها منه، ولقد نزهوه حيث أضافوا التفضل بالنعمة إلى اللّه تعالى، وأسندوا الضلال الذي نشأ عنه إلى الضالين، فهو شرح للاسناد المجازى في قوله يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ولو كان مضلا حقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا : بل أنت أضللتهم» قال أحمد : قد تقدم شرح عقيدة أهل الحق في هذا المعنى، وأن الباعث لهم على اعتقاد كون الضلال من خلق اللّه تعالى : التزامهم للتوحيد المحض والايمان الصرف، الذي دل على صحته بعد الأدلة العقلية قوله تعالى اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ والضلال شيء، فوجب كونه خالقه : هذا من حيث العموم. وأما من حيث الخصوص، فأمثال قوله تعالى يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ، والأصل الحقيقة، وقول موسى عليه السلام إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ فلو كان الإضلال مستحيلا على اللّه تعالى لما جاز أن يخاطبه الكليم بما لا يجوز، فإذا أوضح ذلك فالملائكة لم يسئلوا في هذه الاية عن المضل لعبادهم حقيقة، فيقال لهم :
من أضل هؤلاء، وإنما قيل لهم : أأنتم أضللتموهم، أم هم ضلوا؟ فليس الجواب المطابق العتيد أن يقولوا : أنت أضللتهم. ولو كان معتقدهم أن اللّه تعالى هو المضل حقيقة، لكان قولهم في جواب هذا السؤال : بل أنت أضللتهم مجاوزة لمحل السؤال ومحله، وإنما كان هذا الجواب مطابقا لو قيل لهم : من أضل عبادي هؤلاء؟ فقد وضح أن هذا السؤال لإيجاب عنه بما تخيله الزمخشري، بتقدير أن يكون معتقدهم أن اللّه تعالى هو الذي أضلهم، وأن عدو لهم عنه ليس لأنهم لا يعتقدونه، ولكن لأنه لا يطابق، وبقي وراء ذلك نظر في أن جوابهم هذا يدل على معتقدهم الموافق لأهل الحق، لأن أهل الحق يعتقدون أن اللّه تعالى وإن خلق لهم الضلالة إلا أن لهم اختيارا فيها وتميزا لها، ولم يكونوا عليها مقسورين كما هم مقسورون على أفعال كثيرة يخلقها اللّه فيهم كالحركات الرعشية ونحوها. وقد قدمنا في مواضع : أن كل فعل اختيارى له نسبتان : إن نظر إلى كونه مخلوقا فهو منسوب إلى اللّه تعالى، وإن نظر إلى كونه اختياريا للعبد فهو منسوب إلى العبد. وبذلك قطعت الملائكة في قولهم : بل متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر، فنسبوا نسيان الذكر إليهم، أى : الانهماك في الشهوات الذي نشأ عنه النسيان، لأنهم اختاروه لأنفسهم، فصدقت نسبته إليهم، ونسبوا السبب الذي اقتضى نسيانهم وانهما كهم في الشهوات إلى اللّه تعالى : وهو استدراجهم ببسط النعم عليهم، فيها ضلوا، فلا تنافى بين معتقد أهل الحق وبين مضمون قول الملائكة حينئذ. بل هما متواطئان على أمر واحد، واللّه أعلم.
(١). قوله «فيبهتوا» يدهشوا. أو يتحيروا. أفاده الصحاح (ع)
(٢). قوله «لقول من يزعم أن اللّه... الخ» يريد أهل السنة القائلين : إضلال اللّه لعباده خلق الضلال في قلوبهم، خلافا للمعتزلة القائلين : أنه تعالى لا يخلق الشر ولا يريده. (ع)
(٣). قال محمود :«في هذه الآية كسر بين لمن يزعم أن اللّه تعالى يضل عباده حقيقة، حيث يقول للمعبودين من دونه : أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء، أم هم ضلوا بأنفسهم؟ فيتبرءون منهم ويستعيذون مما نسب إليهم، ويقولون : بل تفضلك على هؤلاء أوجب أن جعلوا عرض الشكر كفرا، فإذا برأت الملائكة والرسل أنفسهم من ذلك. فهم للّه أشد تبرئة وتنزيها منه، ولقد نزهوه حيث أضافوا التفضل بالنعمة إلى اللّه تعالى، وأسندوا الضلال الذي نشأ عنه إلى الضالين، فهو شرح للاسناد المجازى في قوله يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ولو كان مضلا حقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا : بل أنت أضللتهم» قال أحمد : قد تقدم شرح عقيدة أهل الحق في هذا المعنى، وأن الباعث لهم على اعتقاد كون الضلال من خلق اللّه تعالى : التزامهم للتوحيد المحض والايمان الصرف، الذي دل على صحته بعد الأدلة العقلية قوله تعالى اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ والضلال شيء، فوجب كونه خالقه : هذا من حيث العموم. وأما من حيث الخصوص، فأمثال قوله تعالى يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ، والأصل الحقيقة، وقول موسى عليه السلام إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ فلو كان الإضلال مستحيلا على اللّه تعالى لما جاز أن يخاطبه الكليم بما لا يجوز، فإذا أوضح ذلك فالملائكة لم يسئلوا في هذه الاية عن المضل لعبادهم حقيقة، فيقال لهم :
من أضل هؤلاء، وإنما قيل لهم : أأنتم أضللتموهم، أم هم ضلوا؟ فليس الجواب المطابق العتيد أن يقولوا : أنت أضللتهم. ولو كان معتقدهم أن اللّه تعالى هو المضل حقيقة، لكان قولهم في جواب هذا السؤال : بل أنت أضللتهم مجاوزة لمحل السؤال ومحله، وإنما كان هذا الجواب مطابقا لو قيل لهم : من أضل عبادي هؤلاء؟ فقد وضح أن هذا السؤال لإيجاب عنه بما تخيله الزمخشري، بتقدير أن يكون معتقدهم أن اللّه تعالى هو الذي أضلهم، وأن عدو لهم عنه ليس لأنهم لا يعتقدونه، ولكن لأنه لا يطابق، وبقي وراء ذلك نظر في أن جوابهم هذا يدل على معتقدهم الموافق لأهل الحق، لأن أهل الحق يعتقدون أن اللّه تعالى وإن خلق لهم الضلالة إلا أن لهم اختيارا فيها وتميزا لها، ولم يكونوا عليها مقسورين كما هم مقسورون على أفعال كثيرة يخلقها اللّه فيهم كالحركات الرعشية ونحوها. وقد قدمنا في مواضع : أن كل فعل اختيارى له نسبتان : إن نظر إلى كونه مخلوقا فهو منسوب إلى اللّه تعالى، وإن نظر إلى كونه اختياريا للعبد فهو منسوب إلى العبد. وبذلك قطعت الملائكة في قولهم : بل متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر، فنسبوا نسيان الذكر إليهم، أى : الانهماك في الشهوات الذي نشأ عنه النسيان، لأنهم اختاروه لأنفسهم، فصدقت نسبته إليهم، ونسبوا السبب الذي اقتضى نسيانهم وانهما كهم في الشهوات إلى اللّه تعالى : وهو استدراجهم ببسط النعم عليهم، فيها ضلوا، فلا تنافى بين معتقد أهل الحق وبين مضمون قول الملائكة حينئذ. بل هما متواطئان على أمر واحد، واللّه أعلم.