وبينه. فأظهركما وأغلبكما وأكسر شوكته عنكما وأنكسه. ويجوز أن يكونا خبرين لأنّ، أو يكون مُسْتَمِعُونَ مستقرا، ومَعَكُمْ لغوا. فإن قلت : لم جعلت مُسْتَمِعُونَ قرينة مَعَكُمْ في كونه من باب المجاز، واللّه تعالى يوصف على الحقيقة بأنه سميع وسامع؟ قلت : ولكن لا يوصف بالمستمع على الحقيقة، لأنّ الاستماع جار مجرى الإصغاء، والاستماع من السمع بمنزلة النظر من الرؤية. ومنه قوله تعالى قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً ويقال : استمع إلى حديثه، وسمع حديثه، أى : أصغى إليه وأدركه بحاسة السمع. ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم «١» «من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صبّ في أذنيه البرم» «٢». فإن قلت : هلا ثنى الرسول كما ثنى في قوله إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ؟ قلت : الرسول يكون بمعنى المرسل، وبمعنى الرسالة، فجعل ثم بمعنى المرسل فلم يكن بدّ من تثنيته، وجعل هاهنا بمعنى الرسالة فجاز التسوية فيه - إذا وصف به - بين الواحد والتثنية والجمع، كما يفعل بالصفة بالمصادر، نحو : صوم، وزور. قال :
ألكنى إليها وخير الرّسو ل أعلمهم بنواحي الخبر «٣»
فجعله للجماعة. والشاهد في الرسول بمعنى الرسالة قوله :
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول «٤»

__
(١). لم أجده بهذا اللفظ، والمحفوظ «صب في أذنيه الآنك» وهو الرصاص. وذكره ابن الأثير في النهاية بلفظ :«البرم الدم» وقال : هو الكحل المذاب. قلت : وإنما تلقاه ابن الأثير عن الفائق، فرجع إلى الزمخشري.
(٢). قوله «صب في أذنيه البرم» في الصحاح «البرم» : ثمر العضاء. (ع)
(٣). لأبى ذؤيب. وألاكه يليكه : إذا أرسله. والمصدر إلاكة، فالهمزة زائدة. والأصل : لاك يلوك، كقام يقوم. وأما ألكه : إذا أرسله أيضا، فمصدره : ألوكة وأليكة ومألكة، بضم اللام وفتحها. ومألك بضمها.
وقيل : ألاكه، إذا تحمل رسالته. فالمعنى : أرسلنى، أو تحمل رسالتي إليها. ويروى : إليه : أى : إلى ذلك الأمر. والرسول في الأصل مصدر، فجاز إفراده مع تعدد معناه، ولذلك عاد إليه ضمير الجمع في أعلمهم. وشبه الخبر بمكان ذى جهات على طريق المكنية. والنواحي تخييل. أو شبه توابع الخبر التي يسأل عنها تبعا له بالنواحى على طريق التصريحية، يعنى أنه أعلم من غيره بذلك.
(٤) حلفت برب الراقصات إلى منى خلال الملا يمددن كلّ جديل
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول
فلا تعجلي يا عز أن تنفهمى بنصح أتى الواشون أم بحبول
لكثير صاحب عزة. والراقصات : المطايا السائرات إلى منى في الحج، خلال الملا : أى في أثناء الناس. والجديل الرسن في عنقها تمده به. والواشي : الذي يحسن الكلام ويموهه، ويخلط الصدق بالكذب، ويحرف الكلم عن مواضعه. و«ما» نافية، أى : ما تفوهت عندهم بسر، ولا أرسلتهم إلى أحد برسول، أى برسالة، فهو في الأصل مصدر. وقد يطلق على المرسل، وهو الظاهر في رواية، «و لا راسلتهم برسول» أى لا شافهتهم بالسر ولا أرسلت إليهم رسولا به، وهذه الرواية أوفق بالمقابلة. ويمكن أن أرسلتهم بمعنى أرسلت إليهم، والأصل : يا عزة، فرخم بحذف التاء، أن تنفهمى، أى : في أن تنفهمى. أو لأجل أن تنفهمى، بنصح، أى : أبنصح أتى الواشون إليك، أم بحبول : جمع حبل بالكسر : وهي الداهية العظيمة، ولا أدهى من الكذب.


الصفحة التالية
Icon