سجونى. وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فردا لا يبصر فيها ولا يسمع، فكان ذلك أشدّ من القتل وأشدّ.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٣٠ إلى ٣١]
قالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١)
الواو في قوله أَوَ لَوْ جِئْتُكَ واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام. معناه : أتفعل بى ذلك ولو جئتك بشيء مبين، أى : جائيا بالمعجزة. وفي قوله إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أنه لا يأتى بالمعجزة إلا الصادق في دعواه، لأن المعجزة تصديق من اللّه لمدعي النبوّة، والحكيم لا يصدّق الكاذب. ومن العجب أن مثل فرعون لم يخف عليه هذا، وخفى على ناس من أهل القبلة «١» حيث جوّزوا القبيح على اللّه تعالى حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات»

__
(١). قوله «و خفى على ناس من أهل القبلة» يريد أهل السنة، حيث قالوا : إن كلا من الحسن والقبيح بقضاء اللّه تعالى وقدره، ولم يلزمهم باطل كما بين في علم التوحيد. (ع) [.....]
(٢). قال محمود :«علم فرعون أنه لا يأتى بالمعجزة إلا صادق في دعواه، لأن المعجزة تصديق من اللّه تعالى لمدعي النبوة، والحكيم لا يصدق الكاذب. ومن العجب أن فرعون لم يخف عليه هذا وخفى على طائفة من أهل القبلة، حيث جوزوا القبيح على اللّه تعالى حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات. انتهى كلامه» قال أحمد : ليته سلم وجه تصنيفه من ثآليل هذه الأباطيل، وكلف هذا التكليف في كيده لأهل السنة وإن كيده لفي تضليل، بينا هو يعرض بتفضيل فرعون عليهم، إذا هو قد حتم على إخوانه القدرية أنهم فراعنة، وأن كلا منهم إذا فتش نفسه وجد فيها نصيبا من فرعنته حيث يقول أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى لأنهم يعتقدون أن أفعالهم خلقهم، وأنهم لها مبدعون خالقون كلا إنهم لهم المبتدعون المختلقون، لأنهم حجروا على اللّه تعالى أن يفعل إلا ما توطأت أوهامهم، على أنه حسن بالنسبة إلى الخلق في الشاهد، فمن ثم أشركوا به وهم لا يشعرون.
ولما هدى اللّه تعالى أهل السنة إلى التوحيد الحق، اعتقدوا أن كل شيء هو مخلوق للّه تعالى لا شريك له في ملكه، وأن كل ممكن يجوز أن ينظمه سلطان القدرة الأزلية في سلكه، فكان من الممكنات أن يبتلى اللّه عباده يخرق العادات على أيدى الكذابين، ومراده إظهار الضلالات : وقد اندرج ذلك لكونه ممكنا تحت سطوة القدرة حقا بينا، ثم لم يلزم من ذلك للّه الحمد خرم في الدين، فان توهم ناظر بعين الهوى والغرض، معنون عما في قلبه من مرض : أن ذلك يجر إلى عدم الوثوق بمعجزات الأنبياء، حيث كان على يد غيرهم من الكذابين الأشقياء، قيل : معاذ اللّه أن نأخذ ذلك بنفس مطمئنة بصدق الأنبياء، آمنة بحصول العلم لها من وقوع ما جوزه العقل، ولو قدح الإمكان العقلي في علم حاصل يقينى، للزم الآن الشك في أن جبال الأرض قد عادت تبرا أحمر، وترابها مسكا أذفر، وانقلبت البحار دما عبيطا لأن ذلك ممكن في العقل بلا خلاف، ولا يشكك نفسه في هذا الإمكان إلا ذو خبل وعته وعمى وعمه، وأين الزمخشري من الحديث الصحيح في الشاب الذي يكذب الدجال فيقسمه بالسيف جزلتين فيمشى بينهما، ثم يقول له : عد فيعود حيا، فيقول له : ما ازددت فيك إلا بصيرة، أنت الدجال الذي وصفه لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فيهم به ثانى مرة فلا يسلط عليه. قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : وهو حينئذ خير أهل الأرض، أو من خير أهل الأرض» أفرأيت هذا المؤمن لما نظر انخراق العادة على يد أكذب الكاذبين حتى شاهد ذلك في نفسه، لم يشككه ذلك في معلومه، فلم يتلكأ في معاودة تكذيبه، ولكن يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ.


الصفحة التالية
Icon