تقع مكفرة، فما له أثبت لنفسه خطيئة أو خطايا وطمع أن تغفر له؟ قلت : الجواب ما سبق لي : أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم، وهضم لأنفسهم، ويدل عليه قوله أَطْمَعُ ولم يجزم القول بالمغفرة. وفيه تعليم لأممهم، وليكون لطفا لهم في اجتناب المعاصي والحذر منها، وطلب المغفرة مما يفرط منهم. فإن قلت : لم علق مغفرة الخطيئة بيوم الدين، وإنما تغفر في الدنيا؟ قلت : لأنّ أثرها يتبين يومئذ، وهو الآن خفى لا يعلم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٨٣ إلى ٨٩]
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧)
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)
الحكم : الحكمة، أو الحكم بين الناس بالحق. وقيل : النبوّة، لأنّ النبي ذو حكمة وذو حكم بين عباد اللّه. والإلحاق بالصالحين : أن يوفقه لعمل ينتظم به في جملتهم، أو يجمع بينه وبينهم في الجنة. ولقد أجابه حيث قال وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. والإخزاء : من الخزي وهو الهوان. ومن الخزاية «١» وهي الحياء. وهذا أيضا من نحو استغفارهم مما علموا أنه مغفور وفي يُبْعَثُونَ ضمير العباد، لأنه معلوم. أو ضمير الضالين. وأن يجعل من جملة الاستغفار لأبيه «٢»، يعنى : ولا تخزني يوم يبعث الضالون وأبى فيهم إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ إلا حال من أتى اللّه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وهو من قولهم :
تحيّة بينهم ضرب وجيع «٣»
وما ثوابه إلا السيف. وبيانه أن يقال لك : هل لزيد مال وبنون؟ فتقول : ماله وبنوه : سلامة قلبه، تريد نفى المال والبنين عنه، وإثبات سلامة القلب له بدلا عن ذلك. وإن شئت حملت الكلام على المعنى وجعلت المال والبنين في معنى الغنى، كأنه قيل : يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى اللّه بقلب سليم، لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه.

__
(١). قوله «و من الخزاية» لعله : أو من. (ع)
(٢). قوله «أو ضمير الضالين، وأن يجعل من جملة الاستغفار لأبيه» لعله عطف على المعنى، كأنه قال : ويحتمل أنه ضمير الضالين... الخ. (ع)
(٣). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٦٠ فراجعه إن شئت اه مصححه.


الصفحة التالية
Icon