فَأَخَذَهُمْ اللّه بنحو ما اقترحوا من عذاب الظلة إن أرادوا بالسماء السحاب، وإن أرادوا المظلة فقد خالف بهم عن مقترحهم. يروى أنه حبس عنهم الريح سبعا، وسلط عليهم الومد «١» فأخذ بأنفاسهم لا ينفعهم ظلّ ولا ماء ولا سرب، فاضطرّوا إلى أن خرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما، فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا. وروى أنّ شعيبا بعث إلى أمتين : أصحاب مدين، وأصحاب الأيكة، فأهلكت مدين بصيحة جبريل، وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة. فإن قلت : كيف كرّر في هذه السورة في أوّل كل قصة وآخرها ما كرّر؟ قلت : كل قصة منها كتنزيل برأسه، وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها، فكانت كل واحدة منها تدلى بحق في أن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها، وأن تختتم بما اختتمت به، ولأنّ في التكرير تقريرا للمعاني في الأنفس، وتثبيتا لها في الصدور. ألا ترى أنه لا طريق إلى تحفظ العلوم إلا ترديد ما يراد تحفظه منها، وكلما زاد ترديده كان أمكن له في القلب وأرسخ في الفهم وأثبت للذكر وأبعد من النسيان، ولأنّ هذه القصص طرقت بها آذان وقر عن الإنصات للحق، وقلوب غلف عن تدبره، فكوثرت بالوعظ والتذكير، وروجعت بالترديد والتكرير لعل ذلك يفتح أذنا، أو يفتق ذهنا، أو يصقل عقلا طال عهده بالصقل، أو يجلو فهما قد غطى عليه تراكم الصدأ.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ١٩٢ إلى ١٩٦]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦)
وَإِنَّهُ وإن هذا التنزيل، يعنى : ما نزل من هذه القصص والآيات. والمراد بالتنزيل :
المنزل. والباء في نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ ونزل به الروح، على القراءتين للتعدية. ومعنى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ جعل اللّه الروح نازلا به عَلى قَلْبِكَ أى : حفظكه وفهمك إياه، وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى، كقوله تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ إما أنّ يتعلق بالمنذرين،
(١). قوله «الومد» شدة حر الليل، كما في الصحاح. (ع)