وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر. ويروى أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله، ويأمر الرخاء تسيره، فأوحى اللّه إليه وهو يسير بين السماء والأرض : إنى قد زدت في ملكك لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك، فيحكى أنه مر بحرّاث فقال : لقد أوتى آل داود ملكا عظيما، فألقته الريح في أذنه، فنزل ومشى إلى الحرّاث وقال : إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه، ثم قال : لتسبيحة واحدة يقبلها اللّه، خير مما أوتى آل داود يُوزَعُونَ يحبس أولهم على آخرهم، أى : توقف سلاف العسكر «١» حتى تلحقهم التوالي فيكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد، وذلك للكثرة العظيمة.
[سورة النمل (٢٧) : آية ١٨]
حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨)
قيل : هو واد بالشام كثير النمل. فان قلت : لم عدّى أَتَوْا بعلى؟ قلت : يتوجه على معنيين أحدهما أن إتيانهم كان من فوق، فأتى بحرف الاستعلاء، كما قال أبو الطيب :
ولشدّ ما قربت عليك الأنجم «٢»
لما كان قربا من فوق. والثاني : أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره، من قولهم : أتى على الشيء إذا أنفذه وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي، لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهواء لا يخاف حطمهم، وقرئ نملة يا أيها النمل، بضم الميم وبضم النون والميم، وكان الأصل : النمل، بوزن الرجل، والنمل الذي عليه الاستعمال : تخفيف عنه، كقولهم «السبع» في السبع. قيل : كانت تمشى وهي عرجاء تتكاوس «٣»، فنادت : يا أيها النمل : الآية، فسمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال. وقيل : كان اسمها طاخية. وعن قتادة أنه دخل الكوفة
(١). قوله «سلاف العسكر» أى متقدموهم. أفاده الصحاح. (ع)
(٢) فلشد ما جاوزت قدرك صاعدا ولشد ما قربت عليك الأنجم
لأبى الطيب المتنبي، طلب منه رجل المدح، فأبى وقال ذلك، واللام للتأكيد، وشد على صورة المبنى للمجهول للتعجب، وأصله شدد كحسن، فنقل ضم الدال إلى الشين وأدغم، كما هو قياس بناء التعجب، أى : ما أشد مجاوزتك لقدرك، يعنى : كثرت مجاوزتك لمقدارك، حال كونك صاعدا فيما ليس لك من الرفعة، وقال : عليك، دون :
إليك، لأن قرب الأنجم من جهة العلو، أى : كثر عندك قرب النجوم إليك من فوق، ثم يحتمل أن النجوم حقيقة فقد بنى على الصعود المعنوي ما ينبنى على الصعود الحسى، للمبالغة في تشبيه الأول بالثاني. ويحتمل أنها مستعارة لشعره الذي هو النجوم في الحسن، وعزة الوصول إليه على طريق التصريحية، ففيه شبه التورية.
(٣). قوله «تتكاوس» في الصحاح : كوسته على رأسه تكويسا، أى : قلبته، وكاس هو يكوس : إذا فعل ذلك. وكاس البعير : إذا مشى على ثلاث قوائم وهو معرقب. (ع)