دعاة إلى النار «١»، وقلنا : إنهم أئمة دعاة إلى النار، كما يدعى خلفاء الحق أئمة دعاة إلى الجنة. وهو من قولك : جعله بخيلا وفاسقا، إذا دعاه وقال : إنه بخيل وفاسق «٢». ويقول أهل اللغة في تفسير فسقه وبخله : جعله بخيلا وفاسقا. ومنه قوله تعالى وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ومعنى دعوتهم إلى النار : دعوتهم إلى موجباتها من الكفر والمعاصي وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ كما ينصر الأئمة الدعاة إلى الجنة. ويجوز : خذلناهم حتى كانوا أئمة الكفر. ومعنى الخذلان :
منع الألطاف، وإنما يمنعها من علم أنها لا تنفع فيه، وهو المصمم على الكفر الذي لا تغنى عنه الآيات والنذر، ومجراه مجرى الكناية، لأنّ منع الألطاف يردف التصميم، والغرض بذكره :
التصميم نفسه، فكأنه قيل : صمموا على الكفر حتى كانوا أئمة فيه دعاة إليه وإلى سوء عاقبته.
فإن قلت : فأى فائدة في ترك المردوف إلى الرادفة؟ قلت : ذكر الرادفة يدل على وجود المردوف فيعلم وجود المردوف مع الدليل الشاهد بوجوده، فيكون أقوى لإثباته من ذكره. ألا ترى أنك تقول : لولا أنه مصمم على الكفر مقطوع أمره مثبوت حكمه لما منعت منه الألطاف، فبذكر منع الألطاف يحصل العلم بوجود التصميم على الكفر وزيادة، وهو قيام الحجة على وجوده.
وينصر هذا الوجه قوله وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ كأنه قيل. وخذلناهم في الدنيا وهم يوم القيامة مخذولون، كما قال وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أى طردا وإبعادا عن الرحمة وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ أى من المطرودين المبعدين.
[سورة القصص (٢٨) : آية ٤٣]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣)
بَصائِرَ نصب على الحال. والبصيرة : نور القلب الذي يستبصر به، كما أن البصر نور العين الذي تبصر به، يريد : آتيناه التوراة أنوارا للقلوب، لأنها كانت عمياء لا تستبصر ولا تعرف
(١). قوله «و دعوناهم أئمة دعاة إلى النار» هذا التأويل وما يأتى بعده في قوله : ويجوز خذلناهم... إلى آخره :
مبنيان على أنه تعالى يجب عليه الصلاح ولا يجوز عليه خلق الشر، وهذا مذهب المعتزلة. أما مذهب أهل السنة فهو أنه لا يجب عليه تعالى شيء، ويجوز عليه خلق الشر كالخير. وقد حقق في التوحيد فلا داعى إلى تأويل الآية بمثل هذا التكلف. (ع) [.....]
(٢). قال محمود :«معناه دعوناهم أئمة دعاة إلى النار، كما تقول : جعلته بخيلا فاسقا إذا دعوته بذلك» قال أحمد : لا فرق عند أهل السنة بين قوله تعالى وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ وبين هذه الآية، فمن حمل الجعل على التسمية فيما نحن فيه فرارا من اعتقاد أن دعاءهم إلى النار مخلوق للّه تعالى، فهو بمثابة من حمله على التسمية في قوله تعالى «و جعلنا الليل والنهار آيتين» : فرارا من جعل الليل والنهار مخلوقين للّه تعالى، فلا فرق بين نفى مخلوق واحد عن قدرته تعالى ونفى كل مخلوق، نعوذ باللّه من ذلك.