وكان القياس أن يقال : كيف بدأ اللّه الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة؟ قلت : الكلام معهم كان واقعا في الإعادة، وفيها كانت تصطك الركب، فلما قرّرهم في الإبداء بأنه من اللّه، احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء، فإذا كان اللّه الذي لا يعجزه شيء هو الذي لم يعجزه الإبداء، فهو الذي وجب أن لا تعجزه الإعادة «١»، فكأنه قال : ثم ذاك الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشئ النشأة الآخرة، فللدلالة والتنبيه على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ رحمته، ومتعلق المشيئتين مفسر مبين في مواضع من القرآن «٢» وهو من يستوجبهما من الكافر والفاسق إذا لم يتوبا، ومن المعصوم والتائب تُقْلَبُونَ تردون وترجعون وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ربكم أى لا تفوتونه إن هربتم من حكمه وقضائه فِي الْأَرْضِ الفسيحة وَلا فِي السَّماءِ التي هي أفسح منها وأبسط لو كنتم فيها، كقوله تعالى :
إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا، وقيل : ولا من في السماء «٣» كما قال حسان رضى اللّه عنه :
أمن يهجو رسول اللّه منكم ويمدحه وينصره سواء «٤»
ويحتمل أن يراد : لا تعجزونه كيفما هبطتم في مهاوي الأرض وأعماقها، أو علوتم في البروج والقلاع الذاهبة في السماء، كقوله تعالى وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أو لا تعجزون أمره الجاري في السماء والأرض أن يجرى عليكم، فيصيبكم ببلاء يظهر من الأرض أو ينزل من السماء.
[سورة العنكبوت (٢٩) : آية ٢٣]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣)
بِآياتِ اللَّهِ بدلائله على وحدانيته وكتبه ومعجزاته ولقائه والبعث يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وعيد، أى ييأسون يوم القيامة، كقوله : وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ. أو هو وصف
(١). قال محمود :«إن قلت ما وجه الإفصاح باسمه تعالى مع النشأة الآخرة، بعد إضماره في البداءة أو لا؟
قلت : لأن النشأة الآخرة هي المقصودة وفيها كانت تصطك الركب، فكانت خليقة بإبراز اسمه تعالى تحقيقا لنسبة الاعادة إلى من نسبت إليه الأولى» قال أحمد : والأصل الاظهار ثم الإضمار، ويليه لقصد التفخيم : الاظهار بعد الاظهار، ويليه وهو أفخم الثلاثة : الاظهار بعد الإضمار كما في الآية، واللّه أعلم.
(٢). قوله «و متعلق المشيئتين مفسر مبين في مواضع من القرآن» تفسيره بما يأتى مبنى على أنه تعالى يجب عليه تعذيب الكافر والفاسق إذا لم يتوبا وإثابة المعصوم والتائب، وهو مذهب المعتزلة. ولا يجب عليه تعالى شيء عند أهل السنة، فالمشيئة في الآية على إطلاقها. (ع) [.....]
(٣). قوله «و قيل ولا من في السماء» عبارة الخازن : ولا من في السماء بمعجز. (ع)
(٤). تقدم شرح هذا الشاهد ضمن أبيات بالجزء الثاني صفحة ٥٦٣ فراجعه إن شئت اه مصححه.