فليهاجر عنه إلى بلد يقدّر أنه فيه أسلم قلبا وأصح دينا وأكثر عبادة وأحسن خشوعا. ولعمري إن البقاع تتفاوت في ذلك التفاوت الكثير، ولقد جرّبنا وجرّب أوّلونا، فلم نجد فيما درنا وداروا : أعون على قهر النفس وعصيان الشهوة وأجمع للقلب المتلفت وأضم للهم المنتشر وأحث على القناعة وأطرد للشيطان وأبعد من كثير من الفتن وأضبط للأمر الديني في الجملة - من سكنى حرم اللّه وجوار بيت اللّه، فللّه الحمد على ما سهل من ذلك وقرب، ورزق من الصبر وأوزع من الشكر. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض، استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم «١» ومحمد» وقيل : هي في المستضعفين بمكة الذين نزل فيهم أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها وإنما كان ذلك لأنّ أمر دينهم ما كان يستتب لهم بين ظهراني الكفرة فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
في المتكلم، نحو : إياه ضربته، في الغائب وإياك عضتك، في المخاطب. والتقدير : فإياى فاعبدوا : فاعبدون. فإن قلت : ما معنى الفاء في فَاعْبُدُونِ
وتقديم المفعول؟ قلت : الفاء جواب شرط محذوف، لأنّ المعنى : إنّ أرضى واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فأخلصوها لي في غيرها، ثم حذف الشرط وعوّض من حذفه تقديم المفعول، مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص.
[سورة العنكبوت (٢٩) : آية ٥٧]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧)
لما أمر عباده بالحرص على العبادة وصدق الاهتمام بها حتى يتطلبوا لها أوفق البلاد وإن شسعت «٢»، أتبعه قوله كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أى واجدة مرارته وكربه كما يجد الذائق طعم المذوق. ومعناه : إنكم ميتون فواصلون إلى الجزاء، ومن كانت هذه عاقبته لم يكن له بد من التزود لها والاستعداد بجهده.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٥٨ إلى ٥٩]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩)
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لننزلنهم مِنَ الْجَنَّةِ علالي. وقرئ : لنثوّينهم، من الثواء وهو النزول للإقامة.
يقال : ثوى في المنزل، وأثوى هو، وأثوى غيره وثوى : غير متعد، فإذا تعدى بزيادة همزة
(١). أخرجه الثعلبي من مرسل الحسن وقد تقدم في النساء.
(٢). قوله «أوفق البلاد وإن شعست» أى بعدت. (ع)