أى ما خلقها باطلا وعبثا بغير غرض صحيح وحكمة بالغة، ولا لتبقى خالدة : وإنما خلقها مقرونة بالحق مصحوبة بالحكمة، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها من أن تنتهي إليه، وهو قيام الساعة ووقت الحساب والثواب والعقاب. ألا ترى إلى قوله تعالى أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثا. والباء في قوله إِلَّا بِالْحَقِّ مثلها في قولك : دخلت عليه بثياب السفر، واشترى الفرس بسرجه ولجامه، تريد : اشتراه وهو ملتبس بالسرج واللجام، غير منفك عنهما. وكذلك المعنى ما خلقها إلا وهي ملتبسة بالحق مقترنة به، فإن قلت : إذا جعلت فِي أَنْفُسِهِمْ صلة للتفكر، فما معناه؟ قلت : معناه : أو لم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات، وهم أعلم وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها، فتدبروا ما أودعها اللّه ظاهرا وباطنا من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الإهمال وأنه لا بد لها من انتهاء إلى وقت يجازيها فيه الحكم الذي دبر أمرها على الإحسان إحسانا وعلى الإساءة مثلها، حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت، والمراد بلقاء ربهم : الأجل المسمى.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٩]
أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩)
أَوَ لَمْ يَسِيرُوا تقرير لسيرهم في البلاد ونظرهم إلى آثار المدمّرين من عاد وثمود وغيرهم من الأمم العاتية، ثم أخذ يصف لهم أحوالهم وأنهم كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وحرثوها قال اللّه تعالى لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وقيل لبقر الحرث : المثيرة. وقالوا : سمى ثورا لإثارته الأرض وبقرة، لأنها تبقرها أى تشقها وَعَمَرُوها يعنى أولئك المدمّرون أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها من عمارة أهل مكة. وأهل مكة : أهل واد غير ذى زرع، ما لهم إثارة الأرض أصلا، ولا عمارة لها رأسا فما هو إلا تهكم بهم، وبضعف حالهم في دنياهم، لأنّ معظم ما يستظهر به أهل الدنيا ويتباهون به أمر الدهقنة «١»، وهم أيضا ضعاف القوى، فقوله كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً أى عاد وثمود وأضرابهم من هذا القبيل، كقوله أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وإن كان هذا أبلغ، لأنه خالق القوى والقدر. فما كان تدميره إياهم ظلما لهم، لأنّ حاله منافية للظلم، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث عملوا ما أوجب تدميرهم.
(١). قوله «أمر الدهقنة» أي الزراعة (ع)