كيف جعلهم غضابا، ثم قال : فأعتبوا، أى : أزيل غضبهم. والغضب في معنى العتب. والمعنى :
لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة وطاعة، ومثله قوله تعالى لا يُخْرَجُونَ مِنْها، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ.
فإن قلت : كيف جعلوا غير مستعتبين في بعض الآيات، وغير معتبين في بعضها، وهو قوله وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ؟ قلت : أما كونهم غير مستعتبين : فهذا معناه. وأما كونهم غير معتبين، فمعناه : أنهم غير راضين بما هم فيه، فشبهت حالهم بحال قوم جنى عليهم، فهم عاتبون على الجاني غير راضين عنه، فإن يستعتبوا اللّه : أى يسألوه إزالة ما هم فيه، فما هم من المجابين إلى إزالته.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥٨ إلى ٦٠]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠)
وَلَقَدْ وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن، كصفة المبعوثين يوم القيامة، وقصتهم، وما يقولون وما يقال لهم، وما لا ينفع من اعتذارهم ولا يسمع من استعتابهم، ولكنهم - لقسوة قلوبهم ومج أسماعهم حديث الآخرة - إذا جئتهم بآية من آيات القرآن، قالوا : جئتنا بزور وباطل، ثم قال : مثل ذلك الطبع يطبع اللّه على قلوب الجهلة. ومعنى طبع اللّه : منع الألطاف «١» التي ينشرح لها الصدور حتى تقبل الحق، وإنما يمنعها من علم أنها لا تجدى عليه ولا تغنى عنه، كما يمنع الواعظ الموعظة من يتبين له أنّ الموعظة تلغو ولا تنجع فيه، فوقع ذلك كناية عن قسوة قلوبهم وركوب الصدإ والرين إياها، فكأنه قال : كذلك تقسو وتصدأ قلوب الجهلة، حتى يسموا المحقين مبطلين، وهم أعرق خلق اللّه «٢» في تلك الصفة فَاصْبِرْ على عداوتهم إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرتك وإظهار دينك على الدين كله حَقٌّ لا بدّ من إنجازه والوفاء به، ولا يحملنك على الخفة والقلق جزعا مما يقولون ويفعلون فإنهم قوم شاكون ضالون لا يستبدع منهم ذلك. وقرئ بتخفيف النون. وقرأ ابن أبى إسحاق

__
(١). قوله «و معنى طبع اللّه منع الألطاف» أوله بذلك بناء على أنه تعالى لا يخلق الشر وهو مذهب المعتزلة.
وذهب أهل السنة إلى أنه يخلقه كالخير، فالآية على ظاهرها. (ع)
(٢). قوله «و هم أعرق خلق اللّه» في الصحاح : أعرق الرجل، أى : صار عريقا، وهو الذي له عرق في الكرم. (ع)


الصفحة التالية
Icon