كقولك : الجماعة الحسنى، ومثلها مَآرِبُ أُخْرى، ومِنْ آياتِنَا الْكُبْرى. والذي فضلت به أسماؤه في الحسن سائر الأسماء : دلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية، والأفعال التي هي النهاية في الحسن.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩ إلى ١٠]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠)
قفاه بقصة موسى عليه السلام ليتأسى به في تحمل أعباء النبوّة وتكاليف الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد، حتى ينال عند اللّه الفوز والمقام المحمود. يجوز أن ينتصب إِذْ ظرفا للحديث، لأنه حدث. أو لمضمر، أى : حين رَأى ناراً كان كيت وكيت. أو مفعولا لا ذكر استأذن موسى شعيبا عليهما السلام في الخروج إلى أمه وخرج بأهله، فولد له في الطريق ابن في ليلة شاتية مظلمة مثلجة، وقد ضلّ الطريق وتفرّقت ماشيته ولا ماء عنده، وقدح فصلد زنده «١» فرأى النار عند ذلك. قيل : كانت ليلة جمعة. امْكُثُوا أقيموا في مكانكم. الإيناس : الإبصار البين الذي لا شبهة فيه، ومنه إنسان العين لأنه يتبين به الشيء، والإنس : لظهورهم، كما قيل الجنّ لاستتارهم وقيل هو إبصار ما يؤنس به. لما وجد منه الإيناس فكان مقطوعا متيقنا، حققه لهم بكلمة «إنّ» ليوطن أنفسهم. ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين، بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع وقال لَعَلِّي ولم يقطع فيقول : إنى آتِيكُمْ لئلا يعد ما ليس بمستيقن الوفاء به. القبس : النار المقتبسة في رأس عود أو فتيلة أو غيرهما. ومنه قيل : المقبسة، لما يقتبس فيه من سعفة أو نحوها هُدىً أى قوما يهدوننى الطريق أو ينفعوننى بهداهم في أبواب الدين، عن مجاهد وقتادة، وذلك لأنّ أفكار الأبرار مغمورة بالهمة الدينية في جميع أحوالهم لا يشغلهم عنها شاغل. والمعنى : ذوى هدى. أو إذا وجد الهداة فقد وجد الهدى. ومعنى الاستعلاء في عَلَى النَّارِ أنّ أهل النار يستعلون المكان القريب منها، كما قال سيبويه في مررت بزيد : أنه لصوق بمكان يقرب من زيد. أو لأنّ المصطلين بها والمستمتعين بها إذا تكنفوها قياما وقعودا كانوا مشرفين عليها. ومنه قول الأعشى :
وبات على النّار النّدى والمحلّق «٢»
(١). قوله «فصلد زنده» في الصحاح «صلد الزند» إذا صوت ولم يخرج نارا. (ع)
(٢) لعمري لقد لا حت عيون كثيرة إلى ضوء نار في يفاع يخرق
تشب لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلق
رضيعي لبان ثدي أم تقاسما بأسحم داج عوض لا تتفرق
للأعشى يمدح المحلق - بكسر اللام - سمى بذلك لأن بعيره عضه في وجهه فبقى أثر العضة مثل الحلقة، وهو من نبى عكاظ، كان فقيرا وله عشر بنات لا يرغب فيهن أحد لفقرهن، فانعزل بهن إلى بعض المهامة فنزل به الأعشى فنحر له ناقته ولم يكن عنده غيرها وأحسن قراه. فعظم عند الأعشى، فلما أصبح واستوى على راحلته قال له : ألك حاجة؟
قال : نعم، أن تسير بذكرى في بنى عكاظ، لعل أحدا يرغب في بناتي فقد مسهن العنس. فمدحه في عكاظ فلم يلبث حتى خطبت بناته. ولاحت : لمحت وتشوفت، واليفاع : المشرف من الأرض. يخرق : أى يخترق ذلك الضوء وينتشر في الأرض. ويروى : تحرق، بالحاء المهملة، والضمير للنار. وتشب. منى للمجهول، يقال : شبيت النار أشبها شبا وشبوبا : أو قدتها. والمقروران : اللذان أصابهما القر أي البرد، وأراد بهما الندى والمحلق، يعنى أنه هو وكرمه ملازمان لنار القرى ملازمة المقرور لنار التدفؤ، وبين ذلك بقوله : وبات على النار الندى والمحلق.
ويجوز أن الأعشى أراد نفسه والمحلق، لكل الأول أوقع في المدح. ومعنى كونهما عليها : أنهما على جانبيها ولأن المتدفئ يكون أعلى منها بحيث يمد يده فوقها. وعطف المحلق على الندى دلالة على أنهما متلازمان متقارنان، وبين ذلك بقوله : رضيعي لبان، وهو حال منهما، شبههما بالتوأمين دلالة على غاية التلازم حتى في الرحم بل وقبله.
واللبان : لبن المرأة خاصة، وهو مضاف إلى ثدي أم، وتنوينها للافراد وإضافته له لأنه منه. ويجوز تنوينه.
فثدى : بدل منه. والأسحم : الأسود الداجي المظلم، أى تحالفا كما هو رواية أيضا في ليل مظلم. أو في الرحم المظلم.
وعوض : ظرف مستقبل، نصب بما بعده. لا نتفرق : جواب التحالف، وكى بذلك كله عن شدة التلازم بينه وبين الكرم.