؟ قلت : هذا من الكلام المتسامح فيه، ثقة في تأويله بأفهام السامعين، واتكالا على تسديدهم معناه بعقولهم، وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد. وعليه كلام الناس المستفيض. يقولون : لا يثيب اللّه عبدا ولا يعاقبه إلا بحق.
وما تنعمت بلدا ولا اجتويته إلا قل فيه ثوائى «١». وفيه تأويل آخر : هو أنه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا في كتاب، وصورته : أن يكتب في اللوح : إن حج فلان أو غزا فعمره أربعون سنة، وإن حج وغزا فعمره ستون سنة، فإذا جمع بينهما فبلغ الستين فقد عمر. وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعون، فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون. وإليه أشار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في قوله «إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار «٢»» وعن كعب أنه قال حين طعن عمر رضى اللّه عنه : لو أن عمر دعا اللّه لأخر في أجله، «٣» فقيل لكعب : أليس قد قال اللّه إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ قال :
فقد قال اللّه وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وقد استفاض على الألسنة : أطال اللّه بقاءك، وفسخ في مدتك وما أشبهه. وعن سعيد بن جبير رضى اللّه عنه : يكتب في الصحيفة عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب في أسفل ذلك : ذهب يوم، ذهب يومان، حتى يأتى على آخره. وعن قتادة رضى اللّه عنه : المعمر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة، والكتاب :
اللوح. عن ابن عباس رضى اللّه عنهما : ويجوز أن يراد بكتاب اللّه : علم اللّه، أو صحيفة الإنسان.
وقرئ : ولا ينقص، على تسمية الفاعل من عمره بالتخفيف.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١٢]
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢)
ضرب البحرين : العذب والمالح مثلين للمؤمن والكافر، ثم قال على سبيل الاستطراد في صفة البحرين وما علق بهما من نعمته وعطائه وَمِنْ كُلٍّ أى : ومن كل واحد منهما تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وهو السمك وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً وهي اللؤلؤ والمرجان وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ
(١). قوله «و لا اجتويته إلا قل فيه ثوائي» أى : كرهت المقام به، كذا في الصحاح. (ع)
(٢). أخرجه أحمد من طريق القاسم عن عائشة، لكن قال «و حسن الخلق» بدل «الصدقة» ورواه البيهقي في الشعب من هذا الوجه كذلك، وزاد وحسن الجوار» وله طريق أخرى عند الأصبهانى عن أبى سعيد بلفظ «صلة الرحم وحسن الخلق وبر الوالدين» وزاد «و إن كان القوم فجارا»
(٣). أخرجه إسحاق في آخر مسند ابن عباس رضى اللّه عنهما، أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سعيد.