سأله عن حال من تقدم وخلا من القرون، وعن شقاء من شقى منهم وسعادة من سعد، فأجابه بأنّ هذا سؤال عن الغيب، وقد استأثر اللّه به لا يعلمه إلا هو، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرنى به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون مكتوب عند اللّه في اللوح المحفوظ، لا يجوز على اللّه أن يخطئ شيئا أو ينساه. يقال : ضللت الشيء إذا أخطأته في مكانه فلم تهتد له، كقولك : ضللت الطريق والمنزل. وقرئ : يضل، من أضله إذا ضيعه. وعن ابن عباس : لا يترك من كفر به حتى ينتقم منه، ولا يترك من وحده حتى يجازيه. ويجوز أن يكون فرعون قد نازعه في إحاطة اللّه بكل شيء وتبينه لكل معلوم، فتعنت وقال : ما تقول في سوالف القرون، وتمادى كثرتهم، وتباعد أطراف عددهم، كيف أحاط بهم وبأجزائهم وجواهرهم؟
فأجاب بأنّ كل كائن محبط به علمه، وهو مثبت عنده في كتاب، ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان، كما يجوز ان عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل، أى : لا يضل كما تضل أنت، ولا ينسى كما تنسى يا مدعى الربوبية بالجهل والوقاحة الَّذِي جَعَلَ مرفوع صفة لربي. أو خبر مبتدإ محذوف أو منصوب على المدح، وهذا من مظانه ومجازه مَهْداً قراءة أهل الكوفة، أى : مهدها مهدا.
أو يتمهدونها فهي لهم كالمهد وهو ما يمهد للصبي وَسَلَكَ من قوله تعالى ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، سَلَكْناهُ، نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أى حصل لكم فيها سبلا ووسطها بين الجبال والأودية والبراري فَأَخْرَجْنا انتقل فيه من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع، لما ذكرت من الافتنان «١» والإيذان بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره، وتذعن الأجناس المتفاوتة لمشيئة، لا يمتنع شيء على إرادته. ومثله قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها، أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ وفيه تخصيص أيضا بأنا نحن نقدر على مثل هذا،

__
(١). قال محمود «هذا من باب الالتفات... الخ» قال أحمد : الالتفات إنما يكون في كلام المتكلم الواحد، يصرف كلامه على وجوه شتى، وما نحن فيه ليس من ذلك، فان اللّه تعالى حكى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى ثم قوله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً إلى قوله فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى إما أن يجعل من قول موسى فيكون من باب قول خواص الملك : أمرنا وعمرنا، وإنما يريدون الملك، وليس هذا بالتفات. وإما أن يكون كلام موسى قد انتهي عند قوله وَلا يَنْسى ثم ابتدأ اللّه تعالى وصف ذاته بصفات العامة على خلقه، فليس التفاتا أيضا، وإنما هو انتقال من حكاية إلى إنشاء خطاب، وعلى هذا التأويل ينبغي للقارئ أن يقف وقيفة عند قوله وَلا يَنْسى ليستقر بانتهاء الحكاية. ويحتمل وجها آخر : وهو أن موسى وصف اللّه تعالى بهذه الصفات على لفظ الغيبة فقال الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فلما حكاه اللّه تعالى عند أسند الضمير إلى ذاته، لأن الحاكي هو المحكي في كلام موسى، فمرجع الضميرين واحد، وهذا الوجه وجه حسن دقيق الحاشية، وهذا أقرب الوجوه إلى الالتفات، لكن الزمخشري لم يعنه، واللّه أعلم.


الصفحة التالية
Icon