وفيه أن النظر غير الممدود معفو عنه، وذلك مثل نظر من باده الشيء بالنظر ثم غض الطرف، ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع، وأنّ من أبصر منها شيئا أحب أن يمدّ إليه نظره ويملأ منه عينيه : قيل وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أى لا تفعل ما أنت معتاد له وضاربه، ولقد شدّد العلماء من أهل التقوى في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة في اللباس والمراكب وغير ذلك، لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة، فالناظر إليها محصل لغرضهم، وكالمغري لهم على اتخاذها أَزْواجاً مِنْهُمْ أصنافا من الكفرة. ويجوز أن ينتصب حالا من هاء الضمير، والفعل واقع على مِنْهُمْ كأنه قال : إلى الذي متعنا به وهو أصناف بعضهم وناسا منهم. فإن قلت : علام انتصب زَهْرَةَ؟ قلت : على أحد أربعة أوجه : على الذم وهو النصب على الاختصاص. وعلى تضمين مَتَّعْنا معنى أعطينا وخوّلنا، وكونه مفعولا ثانيا له. وعلى إبداله من محل الجار والمجرور. وعلى إبداله من أزواجا، على تقدير ذوى زهرة.
فإن قلت : ما معنى الزهرة فيمن حرّك «١»؟ قلت : معنى الزهرة بعينه وهو الزينة والبهجة، كما جاء في الجهرة الجهرة. وقرئ : أرنا اللّه جهرة. وأن تكون جمع زاهر، وصفا لهم بأنهم زاهروا هذه الدنيا، لصفاء ألوانهم مما يلهون ويتنعمون، وتهلل وجوههم «٢» وبهاء زيهم وشارتهم «٣»، بخلاف ما عليه المؤمنون والصلحاء : من شحوب الألوان والتقشف في الثياب لِنَفْتِنَهُمْ لنبلوهم حتى يستوجبوا العذاب، لوجود الكفران منهم. أو لنعذبهم في الآخرة بسببه وَرِزْقُ رَبِّكَ هو ما ادّخر له من ثواب الآخرة الذي هو خير منه في نفسه وأدوم. أو ما رزقه من نعمة الإسلام والنبوّة. أو لأن أموالهم الغالب عليها الغصب والسرقة والحرمة «٤» من بعض الوجوه، والحلال خَيْرٌ وَأَبْقى لأن اللّه لا ينسب إلى نفسه إلا ما حل وطاب دون ما حرم وخبث، والحرام لا يسمى رزقا أصلا «٥». وعن عبد اللّه بن قسيط عن رافع قال : بعثني رسول اللّه صلى اللّه عليه
(١). قوله «حرك» أى حرك الهاء بالفتح. (ع)
(٢). قوله «و تهلل وجوههم» الذي في الصحاح : تهلل وجه الرجل من فرحه، وهلهل النساج الثوب. أرق نسجه وخففه. (ع)
(٣). قوله «و بهاء زيهم وشارتهم» في الصحاح : الزي والشارة : اللباس والهيئة. (ع)
(٤). قال محمود :«معناه أن رزق هؤلاء المتمتعين في الدنيا أكثره مكتسب من الحرام... الخ» قال أحمد :
لولا أن غرض القدرية من هذا إثبات رازق غير اللّه تعالى كما أثبتوا خالقا سوى اللّه تعالى لكان البحث لفظيا.
فالحق والسنة أن كل ما تقوم به البنية رزق من اللّه تعالى، سواء كان حلالا أو غيره، لا يلزم من كون اللّه تعالى رزقه أن يكون حلالا، فكما يخلق اللّه تعالى على يدي العبد ما نهاه عنه، كذلك يرزقه ما أباح له تناوله وما لا لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ واللّه الموفق الصواب.
(٥). قوله «و الحرام لا يسمي رزقا أصلا» هذا عند المعتزلة، ويسمى رزقا عند أهل السنة. (ع)