ومنها أنّ كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار. ومنها : أن هذا يكر على هذا كرورا متتابعا، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على عقاب المصرين الْغَفَّارُ لذنوب التائبين «١». أو الغالب الذي يقدر على أن يعاجلهم بالعقوبة وهو يحلم عنهم ويؤخرهم إلى أجل مسمى، فسمى الحلم عنهم : مغفرة.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦]
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦)
فإن قلت : ما وجه قوله ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وما يعطيه من معنى التراخي؟ قلت : هما آيتان «٢» من جملة الآيات التي عدّدها دالا على وحدانيته وقدرته : تشعيب هذا الخلق الفائت
(١). قال محمود :«أى لذنوب التائبين» قال أحمد : الحق أنه تعالى غفار للتائبين ولمن يشاء من المصرين على ما دون الشرك وقنوطهم من رحمة اللّه تعالى. ولقد قيد الزمخشري الآية بما ترى.
(٢). قال محمود :«فان قلت : ما وجه العطف بثم في قوله ثُمَّ جَعَلَ وأجاب بأتهما آيتان... الخ» قال أحمد إنما منعه من حمل ثم على التراخي في الوجود أنها وقعت بين خلق الذرية من آدم، وخلق حواء منه، وهو متقدم على الذرية فضلا عن كونه متراخيا عن خلق الذرية، فلم يستقم حملها على تراخى الوجود لما جعلها في الوجه الآخر متعلقة بمعنى واحدة، على تقدير : خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها، يعنى : شفعها بزوجها، فكانت هاهنا على بابها لتراخى الوجود، واللّه سبحانه وتعالى أعلم. [.....]