كانوا يتربصون برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم موته، فأخبر أن الموت يعمهم، فلا معنى للتربص، وشماتة الباقي بالفاني. وعن قتادة : نعى إلى نبيه نفسه، ونعى إليكم أنفسكم :«١» وقرئ : مائت ومائتون «٢». والفرق بين الميت والمائت : أن الميت صفة لازمة كالسيد.
وأما المائت، فصفة حادثة. تقول : زيد مائت غدا، كما تقول : سائد غدا، أى سيموت وسيسود.
وإذا قلت : زيد ميت، فكما تقول : حى في نقيضه، فيما يرجع إلى اللزوم والثبوت. والمعنى في قوله إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ إنك وإياهم، وإن كنتم أحياء فأنتم في عداد الموتى، لأن ما هو كائن فكأن قد كان ثُمَّ إِنَّكُمْ ثم إنك وإياهم، فغلب ضمير المخاطب على ضمير الغيب تَخْتَصِمُونَ فتحتج أنت عليهم بأنك بلغت فكذبوا، فاجتهدت في الدعوة فلجوا في العناد، ويعتذرون بما لا طائل تحته، تقول الأتباع : أطعنا سادتنا وكبراءنا، وتقول السادات :
أغوتنا الشياطين وآباؤنا الأقدمون، وقد حمل على اختصام الجميع وأن الكفار يخاصم بعضهم بعضا، حتى يقال لهم : لا تختصموا لدىّ، والمؤمنون الكافرين يبكتونهم بالحجج، وأهل القبلة يكون بينهم الخصام. قال عبد اللّه بن عمر : لقد عشنا برهة من دهرنا ونحن نرى أن هذه الآية أنزلت فينا وفي أهل الكتاب؟ قلنا : كيف نختصم ونبينا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد؟
حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت أنها نزلت فينا «٣» وقال أبو سعيد الخدري : كنا نقول : ربنا واحد ونبينا واحد وديننا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف، قلنا : نعم هو هذا «٤». وعن إبراهيم النخعي قالت الصحابة : ما خصومتنا ونحن إخوان؟ فلما قتل عثمان رضى اللّه عنه قالوا : هذه خصومتنا «٥».
وعن أبى العالية : نزلت في أهل القبلة. والوجه الذي يدل عليه كلام اللّه هو ما قدمت أولا.
ألا ترى إلى قوله تعالى فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وقوله تعالى وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ وما هو إلا بيان وتفسير للذين يكون بينهم الخصومة كَذَبَ عَلَى اللَّهِ افترى عليه بإضافة
(١). قوله «و نعى إليكم أنفسكم» لعله : إليهم أنفسهم. (ع)
(٢). قال محمود :«قرئ : إنك ميت ومائت... الخ» قال أحمد : فاستعمال ميت مجاز، إذ الخطاب مع الأحياء واستعمال مائت حقيقة إذ لا يعطى اسم الفاعل وجود الفعل حال الخطاب. ونظيره قوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها يعنى : توفى الموت وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها أى يتوفاها حين المنام، تشبيها للنوم بالموت، كقوله وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ فيمسك الأنفس التي قضى عليها الموت الحقيقي، أى : لا يردها في وقتها حية وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أى النائمة إلى الأجل الذي سماه، أى قدره لموتها الحقيقي. هذا أوضح ما قيل في تفسير الآية، واللّه أعلم.
(٣). أخرجه الحاكم من رواية القاسم بن عوف عن ابن عمر رضى اللّه عنهما.
(٤). ذكره الثعلبي. قال : وروى خلف بن خليفة عن أبى هاشم عن الخدري.
(٥). أخرجه عبد الرزاق والطبري والثعلبي من رواية عبد اللّه بن عوف عن إبراهيم بهذا.