وهو يعلم وجه خلاصهم، ونصيحتهم عليه واجبة، فهو يتحزن لهم ويتلطف بهم، ويستدعى بذلك أن لا يتهموه، فإنّ سرورهم سروره، وغمهم غمه، وينزلوا على تنصيحه لهم، كما كرر إبراهيم عليه السلام في نصيحة أبيه : يا أبت. وأما المجيء بالواو العاطفة، فلأن الثاني داخل على كلام هو بيان للمجمل وتفسير له، فأعطى الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو، وأما الثالث فداخل على كلام ليس بتلك المثابة. يقال : دعاه إلى كذا ودعاه له، كما تقول : هداه إلى الطريق وهداه له ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أى بربوبيته، والمراد بنفي العلم : نفى المعلوم، كأنه قال :
وأشرك به ما ليس بإله، وما ليس بإله كيف يصح أن يعلم إلها «١»
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٤٣ إلى ٤٤]
لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤)
لا جَرَمَ سياقه على مذهب البصريين : أن يجعل لا ردّا لما دعاه إليه قومه. وجرم :
فعل بمعنى حق، وأنّ مع ما في حيزه فاعله، أى : حق ووجب بطلان دعوته. أو بمعنى : كسب، من قوله تعالى وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا أى : كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته، على معنى أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته.
ويجوز أن يقال : أن لا جرم، نظير : لا بدّ، فعل من الجرم، وهو القطع، كما أن بدّا فعل من التبديد وهو التفريق، فكما أن معنى : لا بد أنك تفعل كذا، بمعنى : لا بعد لك من فعله، فكذلك لا جرم أن لهم النار، أى : لا قطع لذلك، بمعنى أنهم أبدا يستحقون النار لا انقطاع لاستحقاقهم ولا قطع، لبطلان دعوة الأصنام، أى لا تزال باطلة لا ينقطع ذلك فينقلب حقا. وروى عن العرب : لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء، بزنة بد، وفعل وفعل : أخوان. كرشد ورشد، وعدم وعدم لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ معناه : أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة إلى نفسه قط، أى :
من حق المعبود بالحق أن يدعو العباد إلى طاعته، ثم يدعو العباد إليها إظهارا لدعوة ربهم وما تدعون إليه وإلى عبادته، لا يدعو هو إلى ذلك ولا يدعى الربوبية، ولو كان حيوانا ناطقا لضجّ من دعائكم. وقوله فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ يعنى أنه في الدنيا جماد لا يستطيع شيئا
(١). قال محمود : المراد بنفي العلم نفى المعلوم، كأنه قال : وأشرك به ما ليس باله، وما ليس باله كيف يصح أن يعلم إلها» قال أحمد : وهذا من قبيل
على لا حب لا يهتدى بمناره
أى : لا منار له فيهتدى به، وكلام الزمخشري هاهنا أشد من كلامه على قوله تعالى حكاية عن فرعون ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي.