ألا ترى إلى البون بين قوليك : هو شاعر، وله شعر شاعر.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٧ إلى ١٨]
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨)
وقرئ : ثمود، بالرفع والنصب منونا وغير منون، والرفع أفصح لوقوعه بعد حرف الابتداء.
وقرئ بضم الثاء فَهَدَيْناهُمْ فدللناهم على طريقى الضلالة والرشد، كقوله تعالى وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ. فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فاختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد.
فإن قلت : أليس معنى هديته : حصلت فيه الهدى، والدليل عليه قولك : هديته فاهتدى، بمعنى : تحصيل البغية وحصولها، كما تقول : ردعته فارتدع، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجرّدة؟ قلت : للدلالة على أنه مكنهم وأزاح عللهم ولم يبق له عذرا ولا علة، فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها صاعِقَةُ الْعَذابِ داهية العذاب وقارعة العذاب.
والْهُونِ الهوان، وصف به العذاب مبالغة. أو أبدله منه، ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة «١» بشهادة نبيها صلى اللّه عليه وسلم - وكفى به شاهدا - إلا هذه الآية، لكفى بها حجة «٢».

__
(١). قوله «حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة» يريد أهل السنة، سماهم المعتزلة بذلك لقولهم : جميع الحوادث - خيرا كانت أو شرا من أفعال العباد الاختيارية أو غيرها - فهي بقضاء اللّه تعالى وقدره، خلافا للمعتزلة :
حيث ذهبوا إلى أن جميع الأفعال الاختيارية ليست بقضائه تعالى وقدره، ولا تأثير له فيها أصلا. وهذا أحق بالتنقيص الذي يفيده الحديث. وفسروا الإضلال والهدى في قوله تعالى يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بخلق الضلال وخلق الاهتداء، خلافا للمعتزلة : حيث فسروا الإضلال بالخذلان وترك العبد وشأنه، والهدى بالبيان ونقل النسفي عن أبى منصور الماتريدى : أن الهدى المضاف للخالق يكون تارة بمعنى البيان كما في هذه الآية وتارة بمعنى خلق الاهتداء كما في قوله تعالى يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ والمضاف للمخلوق بمعنى البيان فقط، ويحتمل أن يكون هدى ثمود بمعنى خلق الاهتداء فيهم. وأنهم آمنوا قبل عقر الناقة، ثم كفروا وعقروها اه (ع)
(٢). قال محمود :«فدللناهم على طريقى الضلالة والرشد، ثم قال : فان قلت أليس معنى هديته حصلت له الهدى والدليل عليه قولك : هديته فاهتدى، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟ وأجاب بأنه مكنهم وأزاح عللهم، ولم يبق لهم عذرا ولا علة، فكأنه حصل البغية فيهم بحصول موجبها، ثم قال : ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبينا عليه الصلاة والسلام - وكفى به شهيدا - إلا هذه الآية، لكفى بها حجة» قال أحمد : قد أنطقه اللّه الذي أنطق كل شيء، فان القدرية مجوس هذه الأمة بشهادة النبي صلى اللّه عليه وسلم، وقد شهد صحبه الأكرمون أن الطائفة الذين قفا الزمخشري أثرهم القدرية المتمجسة، الذين أديانهم بأدناس الفساد متنجسة فهم أول منخرط في هذا السلك، ومنهبط في مهواة هذا الهلك، ولترجع إلى أصل الكلام فنقول : الهدى من اللّه تعالى عند أهل السنة حقيقة : هو خلق الهدى في قلوب المؤمنين، والإضلال : خلق الضلال في قلوب الكافرين، ثم ورد الهدى على غير ذلك من الوجوه مجازا واتساعا، نحو هذه الآية، فان المراد فيها بالهدى الدلالة على طريقه كما فسره الزمخشري. وقد اتفق الفريقان : أهل السنة وأهل البدعة على أن استعمال الهدى هاهنا مجاز، ثم إن أهل السنة يحملونه على المجاز في جميع موارده في الشرع، فأى الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون، وأى دليل في هذه الآية على أهل السنة لأهل البدعة، حتى يرميهم بما ينعكس إلى نحره، ويذيقه وبال أمره.


الصفحة التالية
Icon