والمعنى : أنكم كنتم تستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب الفواحش، وما كان استتاركم ذلك خيفة أن يشهد عليكم جوارحكم، لأنكم كنتم غير عاملين بشهادتها عليكم، بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلا، ولكنكم إنما استترتم لظنكم أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا كنتم تَعْمَلُونَ وهو الخفيات من أعمالكم، وذلك «١» الظنّ هو الذي أهلككم. وفي هذا تنبيه على أن من حق المؤمن أن لا يذهب عنه، ولا يزل عن ذهنه أن عليه من اللّه علينا كالئة ورقيبا مهيمنا، حتى يكون في أوقات خلواته من ربه أهيب وأحسن احتشاما وأوفر تحفظا وتصونا منه مع الملأ، ولا يتبسط في سره مراقبة «٢» من التشبه بهؤلاء الظانين. وقرئ : ولكن زعمتم وَذلِكُمْ رفع بالابتداء، وظَنُّكُمُ وأَرْداكُمْ خبران، ويجوز أن يكون ظَنُّكُمُ بدلا من ذلِكُمْ وأَرْداكُمْ الخبر.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٢٤ إلى ٢٥]
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥)
فَإِنْ يَصْبِرُوا لم ينفعهم الصبر ولم ينفكوا به من الثواء في النار، وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا وإن يسألوا العتبى وهي الرجوع لهم إلى ما يحبون جزعا مما هم فيه : لم يعتبوا : لم يعطوا العتبى ولم يجابوا إليها، ونحوه قوله عز وعلا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ وقرئ : وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين، أى : إن سئلوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون، أى : لا سبيل لهم إلى ذلك وَقَيَّضْنا لَهُمْ وقدّرنا لهم، يعنى لمشركي مكة : يقال : هذان ثوبان قيضان : إذا كانا متكافئين.
والمقايضة : المعاوضة قُرَناءَ أخدانا «٣» من الشياطين جمع قرين، كقوله تعالى وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ فإن قلت : كيف جاز أن يقيض لهم القرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم؟ قلت : معناه أنه خذلهم «٤» ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين «٥». والدليل عليه وَمَنْ يَعْشُ نقيض
(١). قوله «و ذلك الظن هو الذي أهلككم» لعله. وذلكم. (ع)
(٢). قوله «في سره مراقبة من التشبه» أى مخافة، كما أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قوله «قرناأ أخدانا» أى أصدقاء. أفاده الصحاح. (ع)
(٤). قوله «قلت معناه أنه خذلهم» هذا على مذهب المعتزلة أنه تعالى لا يقدر الشر. أما على مذهب أهل السنة أنه تعالى يقدره كالخير، فلا داعى إلى هذا التكلف. قال تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ الخ. (ع)
(٥). قال محمود :«كيف جاز أن يقيض لهم قرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم؟ وأجاب بأن معناه أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين. والدليل عليه قوله تعالى وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ... الآية قال أحمد : جواب هذا السؤال على مذهب أهل السنة : أن الأمر على ظاهره، فان قاعدة عقيدتهم أن اللّه تعالى قد ينهى عما يريد وقوعه، ويأمر بما لا يريد حصوله، وبذلك نطقت هذه الآية وأخواتها، وإنما تأولها الزمخشري ليتبعها هواه الفاسد في اعتقاده أن اللّه تعالى لا ينهى عما يريد، وإن وقع النهى عنه فعلى خلاف الارادة - تعالى اللّه عن ذلك وبه نستعيذ من جعل القرآن تبعا للهوى، وحينئذ فنقول : لو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبيها عليه الصلاة والسلام سوى هذه الآية، لكفى بها، فهذا موضع هذه المقالة التي أنطقه اللّه بها الذي أنطق كل شيء في الآية التي قبل هذه.