كما سموا أختها اليمنى، وتيمنوا بالسانح، «١» وتطيروا بالبارح، وكان الأعسر معيبا عندهم، وعضدت الشريعة ذلك، فأمرت بمباشرة أفاضل الأمور باليمين، وأراذلها بالشمال. وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحب التيامن في كل شيء «٢». وجعلت اليمين لكاتب الحسنات، والشمال لكاتب السيئات، ووعد المحسن أن يؤتى كتابه بيمينه، والمسيء أن يؤتاه بشماله :
استعيرت لجهة الخير وجانبه، فقيل : أتاه عن اليمين، أى : من قبل الخير وناحيته، فصدّه عنه وأضله. وجاء في بعض التفاسير : من أتاه الشيطان من جهة اليمين : أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق. ومن أتاه من جهة الشمال : أتاه من قبل الشهوات. ومن أتاه من بين يديه : أتاه من قبل التكذيب بالقيامة وبالثواب والعقاب. ومن أتاه من خلفه : خوّفه الفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده، فلم يصل رحما ولم يؤد زكاة. فإن قلت : قولهم : أتاه من جهة الخير وناحيته : مجاز في نفسه، فكيف جعلت اليمين مجازا عن المجاز؟ قلت : من المجاز ما غلب في الاستعمال حتى لحق بالحقائق، وهذا من ذاك، ولك أن تجعلها مستعارة للقوّة والقهر، لأنّ اليمين موصوفة بالقوة، وبها يقع البطش. والمعنى : أنكم كنتم تأتوننا عن القوّة والقهر، وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتقسرونا عليه. وهذا من خطاب الأتباع لرؤسائهم، والغواة لشياطينهم بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بل أبيتم أنتم الإيمان وأعرضتم عنه، مع تمكنكم منه مختارين له على الكفر. غير ملجئين إليه وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ من تسلط نسلبكم به تمكنكم واختياركم بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً مختارين الطغيان فَحَقَّ عَلَيْنا فلزمنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ يعنى : وعيد اللّه بأنا ذائقون لعذابه لا محالة، لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة، ولو حكى الوعيد كما هو لقال : إنكم لذائقون، ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم، لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم. ونحوه قول القائل :
لقد زعمت هوازن قلّ مالى «٣»
(١). قوله «و تيمنوا بالسانح» السانح : المار من اليسار إلى اليمين. والبارح عكسه. أفاده الصحاح. (ع)
(٢). متفق عليه من حديث عائشة رضى اللّه عنها أتم من هذا.
(٣) ألا زعمت هوازن قل مالى وهل لي غير ما أنفقت مال
أسربه نعم ونعم قديما على ما كان هن مال وبال
ألا استفتاحية، وهوازن : امرأته، وضمن زعمت معنى قالت، فعداه إلى الجملة، ولو حكى قولها بلفظه لقال : قل مالك، ولكن جاء بياء المتكلم لجواز الحكاية بالمعنى، وهل : استفهام إنكارى، وغير : حال مقدمة، أى : ليس لي مال غير ما أنفقته في المكارم، وأسربه. مبنى للمجهول صفة لمال، أى : لا يسرني غير ما أنفقته، وبين جهة الإنفاق بقوله : نعم ونعم، أى جوابي للسائلين بذلك من قديم الزمان : هو وبال ومضرة على ما كان لي من مال، ويجوز أن أسر مبنى للفاعل. ونعم الأولى مفعوله، أى : هل لي مال أسربه من يجاب بنعم، والحال أن نعم وبال على المال، ومهلكة له قديما، حيث أخيب السائل بها.