أى : وما خلقت الجن والإنس إلا لأجل العبادة، ولم أرد من جميعهم إلا إياها «١». فإن قلت : لو كان مريدا «٢» للعبادة منهم لكانوا كلهم عبادا؟ قلت : إنما أراد منهم أن يعبدوه مختارين للعبادة لا مضطرين إليها، لأنه خلقهم ممكنين، فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريدا لها، ولو أرادها على القسر والإلجاء لوجدت من جميعهم.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٥٧ إلى ٥٨]
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨)
يريد : أنّ شأنى مع عبادي ليس كشأن السادة مع عبيدهم، فإنّ ملاك العبيد إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم، فإمّا مجهز في تجارة ليفي ربحا. أو مرتب في فلاحة ليعتلّ أرضا. أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته. أو محتطب. أو محتش. أو طابخ. أو خابز، وما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي هي تصرف في أسباب المعيشة وأبواب الرزق، فأمّا مالك ملك العبيد وقال لهم : اشتغلوا بما يسعدكم في أنفسكم، ولا أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي ولا رزقكم، وأنا غنىّ عنكم وعن مرافقكم، ومتفضل عليكم برزقكم وبما يصلحكم ويعيشكم من عندي، فما هو إلا أنا وحدي الْمَتِينُ الشديد القوة. قرئ بالرفع صفة لذو، وبالجر صفة للقوّة على تأويل الاقتدار، والمعنى في وصفه بالقوة والمتانة : أنه القادر البليغ الاقتدار على كل شيء. وقرئ :
الرازق. وفي قراءة النبي صلى اللّه عليه وسلم : إنى أنا الرازق.
(١). قال محمود :«إلا لأجل العبادة، ولم أرد من جميعهم إلا إياها... الخ» قال أحمد : من عاداته أنه إذا استشعر أن ظاهرا موافق لمعتقده نزله على مذهبه بصورة إيراد معتقد أهل السنة سؤالا، وإيراد معتقده جوابا، فكذلك صنع هاهنا، فنقول : السؤال الذي أورده مما لا يجاب عنه بما ذكره، فانه سؤال مقدماته قطعية عقلية، فيجب تنزيل الآية عليه، وهي أن ظاهر سياق الآية دليل لأهل السنة، فإنها إنما سيقت لبيان عظمته عز وجل، وأن شأنه مع عبيده لا يقاس به شأن عبيد الخلق معهم، فان عبيدهم مطلوبون بالخدمة والتكسب للسادة، وبواسطة مكاسب عبيدهم قدر أرزاقهم. واللّه تعالى لا يطلب من عباده رزقا ولا إطعاما، وإنما يطلب منهم عبادته لا غير، وزائد على كونه لا يطلب منهم رزقا أنه هو الذي يرزقهم، فهذا المعنى الشريف هو الذي تحلى تحت راية هذه الآية، وله سيقت، وبه نطقت، ولكن الهوى يعمى ويصم، فحاصله : وما خلقت الجن والانس إلا لأدعوهم إلى عبادتي، وهذا ما لا يعدل عنه أهل السنة، فانه وافق معتقدهم وباللّه التوفيق.
(٢). قوله «لو كان مريدا العبادة» قد يقال : لا يلزم من خلقهم العبادة أن يريدها من جميعهم. وقوله «مع كونه مريدا لها» هذا على مذهب المعتزلة من أن إرادة اللّه الفعل من العبد بمعنى الأمر. وأما مذهب أهل السنة فكل ما أراده اللّه كان، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد، وتحقيقه في علم التوحيد. (ع)