ليسدّوا بها أفواه الأزقة. وأن لا يتحسروا بعد جلائهم على بقائها مساكن للمسلمين، وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من جسد الخشب والساج المليح. وأما المؤمنون فداعيهم إزالة متحصنهم ومتمنعهم، وأن يتسع لهم مجال الحرب. فإن قلت : ما معنى تخريبهم لها بأيدى المؤمنين؟ قلت :
لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوهم إياه فَاعْتَبِرُوا بما دبر اللّه ويسر من أمر إخراجهم وتسليط المسلمين عليهم من غير قتال. وقيل : وعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المسلمين أن يورثهم اللّه أرضهم وأموالهم بغير قتال، فكان كما قال.
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ٣ إلى ٤]
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤)
يعنى : أنّ اللّه قد عزم على تطهير أرض المدينة منهم وإراحة المسلمين من جوارهم وتوريثهم أموالهم، فلولا أنه كتب عليهم الجلاء واقتضته حكمته ودعاه إلى اختياره أنه أشق عليهم من الموت لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل كما فعل بإخوانهم بنى قريظة وَلَهُمْ سواء أجلوا أو قتلوا عَذابُ النَّارِ يعنى : إن نجوا من عذاب الدنيا لم ينجوا من عذاب الآخرة.
[سورة الحشر (٥٩) : آية ٥]
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥)
مِنْ لِينَةٍ بيان لما قطعتم. ومحل ما نصب بقطعتم، كأنه قال : أى شيء قطعتم، وأنث الضمير الراجع إلى ما في قوله أَوْ تَرَكْتُمُوها لأنه في معنى اللينة. واللينة : النخلة من الألوان، ضروب النخل ما خلا العجوة «١» والبرنية، وهما أجود النخيل، وياؤها عن واو، قلبت لكسرة ما قبلها، كالديمة. وقيل :«اللينة» النخلة الكريمة، كأنهم اشتقوها من اللين.
قال ذو الرمّة :
(١). ذكر الزمخشري فيه تفسيرين أحدهما أنه النخل ما عدا العجوة والبرني وهما خير النخل... الخ. قال أحمد :
والظاهر أن الاذن عام في القطع والترك، لأنه جواب الشرط المضمر لهما جميعا ويكون التعليل باجزاء الفاسقين لهما جيعا، وأن القطع يحسرهم على ذهابها والترك يحسرهم على بقائها للمسلمين ينتفعون بها، فهم في حسرتين من الأمرين جميعا.