الداعي : غفر اللّه لك، ويغفر اللّه لك : جعلت المغفرة لقوّة الرجاء، كأنها كانت ووجدت.
فإن قلت : هل لقول الفراء أنه جواب هَلْ أَدُلُّكُمْ وجه؟ قلت : وجهه أن متعلق الدلالة هو التجارة، والتجارة مفسرة بالإيمان والجهاد، فكأنه قيل : هل تتجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم؟ فإن قلت : فما وجه قراءة زيد بن على رضى اللّه عنهما تُؤْمِنُونَ... وَتُجاهِدُونَ؟
قلت : وجهها أن تكون على إضمار لام الأمر، كقوله :
محمّد تفد نفسك كلّ نفس إذا ما خفت من أمر تبالا «١»
وعن ابن عباس أنهم قالوا : لو نعلم أحب الأعمال إلى اللّه لعملناه، فنزلت هذه الآية، فمكثوا ما شاء اللّه يقولون : ليتنا نعلم ما هي، فدلهم اللّه عليها بقوله تُؤْمِنُونَ وهذا دليل على أن تُؤْمِنُونَ كلام مستأنف، وعلى أنّ الأمر الوارد على النفوس بعد تشوّف وتطلع منها إليه :
أوقع فيها وأقرب من قبولها له مما فوجئت به ذلِكُمْ يعنى ما ذكر من الإيمان والجهاد خَيْرٌ لَكُمْ من أموالكم وأنفسكم. فإن قلت : ما معنى قوله إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ قلت : معناه إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيرا لكم «٢» حينئذ، لأنكم إذا علمتم ذلك واعتقدتموه أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أنفسكم وأموالكم، فتخلصون وتفلحون وَأُخْرى تُحِبُّونَها ولكم إلى هذه النعمة المذكورة من المغفرة والثواب في الآجلة نعمة أخرى عاجلة محبوبة إليكم، ثم فسرها بقوله نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ أى عاجل وهو فتح مكة. وقال الحسن : فتح فارس والروم. وفي تُحِبُّونَها شيء من التوبيخ على محبة العاجل. فإن قلت : علام عطف قوله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ قلت : على تُؤْمِنُونَ لأنه في معنى الأمر، كأنه قيل : آمنوا وجاهدوا يثبكم اللّه وينصركم، وبشر يا رسول اللّه المؤمنين بذلك. فإن قلت : لم نصب من قرأ نصرا من
(١). لأبى طالب. وقيل : للأعشى، يقول : يا رسول اللّه، تفد، أى لتفد، فحذف لام الدعاء الجازمة للفعل لضرورة الشعر، وسوغ حذفها قرينة مقام الطلب، وإلا فحروف الجزم كحروف الجر لا تعمل وهي محذوفة إلا شذوذا، كما صرح به السكاكي. هذا والحذف في نحو قوله تعالى قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ أسهل لأن قرينته لفظية، وهي لفظ قُلْ الدال على الطلب. وقيل : هو خبر بمعنى الدعاء، وخفف بحذف الياء، وقيل : إن ذلك في غير الفواصل والقوا في غير سديد، أى : فدى اللّه نفسك بكل نفس إذا خفت تبالا من شيء.
والتبال : هو الوبال، قلبت واوه تاء. ويروى بالجر، على أنه صفة أمر وليس بجيد.
(٢). قال محمود :«معناه : إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيرا لكم... الخ» قال أحمد : كأنه يجرى الشرط على حقيقته وليس بالظاهر، لأن علمهم لذلك محقق. إذ الخطاب مع المؤمنين، والظاهر أنه من وادى قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ والمقصود بهذا الشرط : التنبيه على المعنى الذي يقتضى الامتثال وإلهاب الحمية للطاعة، كما تقول لمن تأمره بالانتصاف من عدوه : إن كنت حرا فانتصر، تريد أن تثير منه حمية الانتصار لا غير، واللّه أعلم.