الجمعة يوم يهبط الناس فيه من قراهم وبواديهم، وينصبون إلى المصر من كل أوب ووقت هبوطهم واجتماعهم واغتصاص الأسواق بهم إذا انتفخ النهار «١» وتعالى الضحى ودنا وقت الظهيرة، وحينئذ تحرّ التجارة ويتكاثر البيع والشراء، فلما كان ذلك الوقت مظنة الذهول بالبيع عن ذكر اللّه والمضي إلى المسجد، قيل لهم : بادروا تجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدنيا، واسعوا إلى ذكر اللّه الذي لا شيء أنفع منه وأربح وَذَرُوا الْبَيْعَ الذي نفعه يسير وريحه مقارب. فإن قلت : فإذا كان البيع في هذا الوقت مأمورا بتركه محرما، فهل هو فاسد؟ قلت :
عامّة العلماء على أن ذلك لا يوجب فساد البيع. قالوا : لأنّ البيع لم يحرم لعينه، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب، فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة والثوب المغصوب، والوضوء بماء مغصوب، وعن بعض الناس : أنه فاسد. ثم أطلق لهم ما حظر عليهم بعد قضاء الصلاة من الانتشار وابتغاء الربح، مع التوصية بإكثار الذكر، وأن لا يلهيهم شيء من تجارة ولا غيرها عنه، وأن تكون هممهم في جميع أحوالهم وأوقاتهم موكلة به لا يتفصون عنه، لأنّ فلاحهم فيه وفوزهم منوط به : وعن ابن عباس : لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا، إنما هو عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيارة أخ في اللّه : وعن الحسن وسعيد بن المسيب : طلب العلم، وقيل :
صلاة التطوّع : وعن بعض السلف أنه كان يشغل نفسه بعد الجمعة بشيء من أمور الدنيا نظرا في هذه الآية.
[سورة الجمعة (٦٢) : آية ١١]
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١)
روى أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد، فقدم دحية بن خليفة بتجارة من زيت الشام والنبي صلى اللّه عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقاموا إليه، خشوا أن يسبقوا إليه، فما بقي معه إلا يسير. قيل : ثمانية، وأحد عشر، واثنا عشر، وأربعون، فقال عليه السلام :
«و الذي نفس محمد بيده، لو خرجوا جميعا لأضرم اللّه عليهم الوادي «٢» نارا» وكانوا إذا
(١). قوله «إذا انتفخ النهار» أى علا. وقوله «تحر» أى تعطش أو يشتد حرها. أفاده الصحاح. (ع)
(٢). هكذا ذكره الواحدي عن المفسرين. وذكره الثعلبي ثم البغوي عن الحسن بغير إسناد. ولفظ الحسن أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه قال «أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر. فقدمت عير والنبي صلى اللّه عليه وسلم قائم يخطب يوم الجمعة فسمعوا بها وخرجوا إليها والنبي صلى اللّه عليه وسلم قائم يخطب كما هو، فأنزل اللّه تعالى وَتَرَكُوكَ قائِماً فقال : لو اتبع آخرهم أولهم لا لتهب الوادي عليهم نارا» وفي رواية أبى سفيان الآتية عند ابن حبان نحوه قال «و الذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال الوادي عليكم نارا :«نزلت هذه الآية» وتعيين دحية في قوله «خشوا أن يسبقوا إليه» رواه الطبري مختصرا من رواية السدى عن ابن مالك قال : قدم دحية بن خليفة بتجارة زبيب من الشام والنبي صلى اللّه عليه وسلم يخطب يوم الجمعة. فلما رأوه قاموا خشية أن يسبقوا إليه فنزلت وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً - الآية وروى البزار من طريق عكرمة عن ابن عباس قال «كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فجاء دحية يبيع سلعة فما بقي في المسجد أحد إلا خرج - إلا نفر - والنبي صلى اللّه عليه وسلم قائم فنزلت. وأصل هذه القصة في الصحيحين من رواية حصين عن سالم بن أبى الجعد عن جابر قال «كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخطب قائما يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس حتى لم يبق إلا اثنى عشر رجلا فأنزلت» وفي لفظ مسلم «منهم أبو بكر وعمر» وفي رواية له «أنا فيهم» وفي رواية البخاري «بينما نحن نصلى مع النبي صلى اللّه عليه وسلم إذ أقبلت عير» قال البيهقي : المراد بقوله نصلى أى نسمع الخطبة، جمعا بين الروايتين انتهى. وقد أخرجه ابن حبان من رواية أبى سفيان عن جابر كذلك. ولفظه «بينما النبي صلى اللّه عليه وسلم يخطب يوم الجمعة.
فقدمت عير من الشام إلى المدينة فابتدرها أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى لم يبق معه إلا اثنى عشر رجلا - الحديث» ويؤيده حديث كعب بن عجرة عند مسلم «أنه أنكر على عبد الرحمن بن أم الحكم أن يخطب قاعدا.
فقال : انظروا إلى هذا يخطب قاعدا. واللّه يقول : وتركوك قائما» ويدل أيضا على أنه كان في الخطبة ما رواه أبو داود في المراسيل من رواية بكر بن معروف عن مقاتل بن حيان قال «كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلى يوم الجمعة قبل الخطبة حتى إذا كان ذات يوم وهو يخطب وقد صلى الجمعة فدخل رجل فقال : إن دحية قد قدم.
وكان إذا قدم تلقوه بالدفاف فخرج الناس، لم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء فأنزل اللّه الآية. فقدم النبي صلى اللّه عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة «و أخر الصلاة» «تنبيه» لم أقف على رواية أنهم كانوا ثمانية ولا أحد عشر، وأما رواية اثنى عشر فهي المشهورة الصحيحة. ورواية الأربعين أخرجها الدارقطني من طريق على بن عاصم عن حصين : وقال : لم يقل أحد من أصحاب حصين أربعون إلا على بن عاصم. والكل قالوا : اثنى عشر رجلا.
وكذلك قال أبو سفيان عن جابر كما تقدم عند ابن حبان.