الإنذار سماع طالبين للحق «١». أو نعقله عقل متأمّلين. وقيل : إنما جمع بين السمع والعقل، لأنّ مدار التكليف على أدلة السمع والعقل. ومن بدع التفاسير : أنّ المراد لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أو على مذهب أصحاب «٢» الرأى، كأنّ هذه الآية نزلت بعد ظهور هذين المذهبين، وكأن سائر أصحاب المذاهب والمجتهدين قد أنزل اللّه وعيدهم، وكأن من كان من هؤلاء فهو من من الناجين لا محالة، وعدّة المبشرين من الصحابة : عشرة، لم يضم إليهم حادي عشر، وكأن من يجوز على الصراط أكثرهم لم يسمعوا باسم هذين الفريقين بِذَنْبِهِمْ بكفرهم في تكذيبهم الرسل فَسُحْقاً قرئ بالتخفيف والتثقيل، أى : فبعدا لهم، اعترفوا أو جحدوا، فإنّ ذلك لا ينفعهم.
[سورة الملك (٦٧) : الآيات ١٣ إلى ١٤]
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤)
ظاهره الأمر بأحد الأمرين : الإسرار والإجهار. ومعناه : ليستو عندكم إسراركم وإجهاركم «٣» في علم اللّه بهما، ثم أنه علله ب إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أى بضمائرها قبل أن تترجم الألسنة عنها، فكيف لا يعلم ما تكلم به. ثم أنكر أن لا يحيط علما بالمضمر والمسر والمجهر مَنْ خَلَقَ الأشياء «٤»، وحاله أنه اللطيف الخبير، المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه

__
(١). قال محمود :«معناه لو كنا نسمع للانذار سماع طالبين للحق... الخ» قال أحمد : إن عنى أن الأحكام الشرعية تستفاد من العقل كما تستفاد من السمع بناء على قاعدة التحسين والتقبيح، فهو غير بعيد من أصحاب السعير.
وإن عنى أن العقل يرشد إلى العقائد الصحيحة والسمع يختص بالأحكام الشرعية : فهو مع أهل السنة.
(٢). قال محمود :«و من بدع التفاسير أن المراد : لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أو على مذهب أصحاب الرأى... الخ» قال أحمد : ولو تفطن نبيه لهذه الآية لعدها دليلا على تفضيل السمع على البصر، فانه قد استدل على ذلك بأخفى منها.
(٣). قوله «إسراركم وإجهاركم» في الصحاح «إجهار الكلام» : إعلانه. (ع)
(٤). قال محمود :«أنكر أن لا يحيط علما بالسر أو الجهر من خلق ذلك... الخ» قال أحمد : هذه الآية رد على المعتزلة وتصحيح الطريق التي يسلكها أهل السنة في الرد عليهم، فان أهل السنة يستدلون على أن العبد لا يخلق أفعاله بأنه لا يعلمها، وهو استدلال بنفي اللازم الذي هو العلم على نفى الملزوم الذي هو الخلق، وبهذه الملازمة دلت الآية، فان اللّه تعالى أرشد إلى الاستدلال على ثبوت العلم له عز وجل بثبوت الخلق، وهو استدلال بوجود الملزوم على وجود اللازم، فهو نور واحد يقتبس منه ثبوت العلم الباري عز وجل، وإبطال خلق العبد لأفعاله، وإعراب الآية ينزل على هذا المعنى، فان الوجه فيها أن يكون مَنْ فاعلا مرادا به الخالق، ومفعول العلم محذوف تقديره : ذلك إشارة إلى السر والجهر ومفعول خلق محذوف ضميره عائد إلى ذلك. والتقدير في الجميع : ألا يعلم السر والجهر من خلقهما. ومتى حذونا غير هذا الوجه من الإعراب ألقانا إلى مضايق التكلف والتعسف، فمن المحتمل أن يكون من مفعولة واقعة على فاعل السر والجهر، والتقدير : ألا يعلم اللّه المسرين والجاهرين، وليس مطابقا للمفصل، فانه لم يقع ذوات الفاعلين، وإنما وقع على أفعالهم من السر والجهر. وعليه وقع الاستدلال. ويحتمل غير ذلك أبعد منه. والأول هو الأولى لفظا ومعنى. واللّه الموفق.


الصفحة التالية
Icon