ومحله النصب على الحال، كأنه قال : ما أنت بمجنون منعما عليك بذلك «١»، ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله، لأنها زائدة لتأكيد النفي. والمعنى، استبعاد ما كان ينسبه إليه كفار مكة عداوة وحسدا، وأنه من إنعام اللّه عليه بحصافة العقل «٢» والشهامة التي يقتضيها التأهيل للنبوّة، بمنزل وَإِنَّ لَكَ على احتمال ذلك وإساغة الغصة فيه والصبر عليه لَأَجْراً لثوابا غَيْرَ مَمْنُونٍ غير مقطوع كقوله عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أو غير ممنون عليك به «٣»، لأنه ثواب تستوجبه «٤» على عملك، وليس بتفضل ابتداء، وإنما تمنّ الفواضل لا الأجور على الأعمال.
[سورة القلم (٦٨) : آية ٤]
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)
استعظم خلقه لفرط احتماله الممضات «٥» من قومه وحسن مخالفته ومداراته لهم. وقيل : هو الخلق الذي أمره اللّه تعالى به في قوله تعالى خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وعن عائشة رضى اللّه عنها : أن سعيد بن هشام سألها عن خلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت : كان خلقه القرآن، ألست تقرأ القرآن : قد أفلح المؤمنون «٦».
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٥ إلى ٦]
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦)
الْمَفْتُونُ المجنون، لأنه فتن : أى محن بالجنون. أو لأن العرب يزعمون أنه من تخبيل الجن، وهم الفتان للفتاك منهم، والباء مزيدة. أو المفتون مصدر كالمعقول والمجلود، أى : بأيكم
(١). قوله «منعما عليك بذلك» كذا في النسفي بعد ما سبق فيه ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ أى بانعامه عليك بالنبوة وغيرها. وهذا مرجع الاشارة. (ع)
(٢). قوله «و إنه من إنعام اللّه بحصافة» لعله من إنعام اللّه عليه بحصافة العقل أى استحكامه. كما أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قال محمود :«معناه غير مقطوع، كقوله عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ... الخ» قال أحمد : ما كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يرضى من الزمخشري بتفسير الآية هكذا. وهو صلى اللّه عليه وسلم يقول «لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله قيل : ولا أنت يا رسول اللّه؟ قال : ولا أنا، إلا أن يتغمدني اللّه بفضل منه ورحمة» ولقد بلغ بالزمخشرى سوء الأدب إلى حد يوجب الحد، وحاصل قوله : أن اللّه لا منة له على أحد ولا فضل في دخول الجنة لأنه قام بواجب عليه، نعوذ باللّه من الجرأة عليه.
(٤). قوله «لأنه ثواب تستوجبه على عملك» وجوب الثواب عليه تعالى مذهب المعتزلة، ولا يجب عليه شيء عند أهل السنة. (ع)
(٥). قوله «احتماله الممضات» أى : الموجعات. أفاده الصحاح. (ع)
(٦). أخرجه مسلم من رواية زرارة ابن أبى أو في عن سعد بن هشام عنه، وفيه قصة، وأخرجه الحاكم مختصرا بلفظ المصنف.