كل هذا قد عرفنا، فما الأب؟ ثم رفض عصا كانت بيده «١» وقال : هذا لعمر اللّه التكلف، وما عليك يا ابن أمّ عمر أن لا تدرى ما الأب، ثم قال : اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه. فإن قلت : فهذا يشبه النهى عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته. قلت :
لم يذهب إلى ذلك، ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا عندهم، فأراد أنّ الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره، وقد علم من فحوى الآية أنّ الأب بعض ما أنبته اللّه للإنسان متاعا له أو لإنعامه، فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر للّه - على ما تبين لك ولم يشكل - مما عدّد من نعمه، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له، واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت، ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن.
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٣٢ إلى ٤١]
مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦)
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١)
يقال : صخّ لحديثه، مثل : أصاخ له، فوصفت النفخة بالصاخة مجازا، لأنّ الناس يصخون لها يَفِرُّ منهم لاشتغاله بما هو مدفوع إليه، ولعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئا، وبدأ بالأخ، ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه، ثم بالصاحبة والبنين لأنهم أقرب وأحب، كأنه قال : يفرّ من أخيه، بل من أبويه، بل من صاحبته وبنيه. وقيل : يفرّ منهم حذرا من مطالبتهم بالتبعات.
يقول الأخ : لم تواسنى بمالك. والأبوان : قصرت في برنا. والصاحبة : أطعمتنى الحرام وفعلت وصنعت. والبنون : لم تعلمنا ولم ترشدنا، وقيل : أوّل من يفرّ من أخيه : هابيل، ومن أبويه :
إبراهيم ومن صاحبته : نوح ولوط، ومن ابنه : نوح يُغْنِيهِ يكفيه في الاهتمام به. وقرئ :
يعنيه أى يهمه مُسْفِرَةٌ مضيئة متهللة، من أسفر الصبح : إذا أضاء. وعن ابن عباس رضى اللّه
(١). أخرجه الطبري والطبراني في مسند الشاميين من طريق ابن وهب عن يونس وعمرو بن الحارث. ورواه الحاكم والبيهقي في الشعب في التاسع عشر من طريق صالح بن كيسان : وابن مردويه من رواية شعيب كلهم عن الزهري «أن إنسانا أخبره أنه سمع عمر فذكره. وله طريق أخرى من رواية حميد عن أنس أخرجها الحاكم. وروى الحاكم أيضا من وجه آخر عن عمر رضى اللّه عنه أنه سأل ابن عباس رضى اللّه عنهما عن الآية فقال : هو نبت الأرض مما تأكله الدواب والأنعام. ولا يأكله الناس.