أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة، وتذكيرهم بما جرى على من تقدّمهم : من التعذيب على الإيمان. وإلحاق أنواع الأذى، وصبرهم وثباتهم، حتى يأنسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم، ويعلموا أن كفارهم عند اللّه بمنزلة أولئك المعذبين المحرقين بالنار، ملعونون أحقاء بأن يقال فيهم : قتلت قريش، كما قيل : قتل أصحاب الأخدود وقتل : دعاء عليهم، كقوله قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ وقرئ : قتل، بالتشديد. والأخدود :
الخدّ في الأرض وهو الشق، ونحوهما بناء ومعنى : الخق والأخقوق. ومنه فساخت قوائمه في أخاقيق جرذان «١». روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : كان لبعض الملوك ساحر، فلما كبر ضمّ إليه غلاما ليعلمه السحر، وكان في طريق الغلام راهب : فسمع منه، فرأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس. فأخذ حجرا فقال : اللهم إن كان الراهب أحبّ إليك من الساحر فاقتلها، فقتلها، فكان الغلام بعد ذلك يبرئ الأكمه والأبرص، ويشفى من الأدواء، وعمى جليس للملك فأبرأه فأبصره الملك فسأله فقال : من ردّ عليك بصرك؟ فقال : ربى، فغضب فعذبه. فدل على الغلام فعذبه، فدل على الراهب، فلم يرجع الراهب عن دينه، فقدّ بالمنشار وأبى الغلام فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته، فدعا فرجب بالقوم، فطاحوا ونجا، فذهب به إلى قرقور «٢» فلججوا به ليغرقوه، فدعا فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا ونجا، فقال للملك :
لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي وتقول :
بسم اللّه رب الغلام، ثم ترميني به. فرماه فوقع في صدغه فوضع يده عليه ومات، فقال الناس : آمنا برب الغلام، فقيل للملك. نزل بك ما كنت تحذر، فأمر بأخاديد في أفواه السكك وأو قدت فيها النيران فمن لم يرجع منهم طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبى فتقاعست «٣» أن تقع فيها، فقال الصبى :
يا أماه، اصبري فإنك على الحق، فاقتحمت. وقيل : قال لها قعى ولا تنافقى. وقيل : قال لها ما هي إلا غميضة فصبرت «٤». وعن على رضى اللّه عنه : أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس قال : هم أهل كتاب وكانوا متمسكين بكتابهم، وكانت الخمر قد أحلت لهم، فتناولها بعض ملوكهم فسكر، فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج، فقالت له : المخرج أن تخطب الناس فتقول : يا أيها الناس، إنّ اللّه أحل نكاح الأخوات، ثم تخطبهم بعد ذلك فتقول : إن اللّه حرّمه، فخطب فلم يقبلوا منه
(١). قوله «جرذان» في الصحاح «الجرذ» : ضرب من الفأر والجمع : الجرذان. (ع)
(٢). قوله «قرقور» في الصحاح «القرقور» : السفينة الطويلة. (ع)
(٣). قوله «فتقاعست» في الصحاح «تقاعس» : إذا تأخر عن الأمر ولم يتقدم. (ع) [.....]
(٤). أخرجه مسلم. والترمذي والنسائي وابن حبان والطبري والطبراني وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والبزار كلهم من رواية ابن أبى ليلى من طرق وأقربها إلى لفظ الكتاب سياق الطبري. تفرد به ثابت البناني عن عبد الرحمن.