على حدوث التسبيح من الجبال شيئا بعد شيء وحالا بعد حال، وكأن السامع محاضر تلك الحال يسمعها تسبح. ومثله قول الأعشى :
إلى ضوء نار في يفاع تحرق «١»
ولو قال : محرقة، لم يكن شيئا. وقوله مَحْشُورَةً في مقابلة : يسبحن : إلا أنه لما لم يكن في الحشر ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئا بعد شيء، جيء به اسما لا فعلا.
وذلك أنه لو قيل : وسخرنا الطير يحشرن - على أنّ الحشر يوجد من حاشرها شيئا بعد شيء.
والحاشر هو اللّه عز وجل - لكان خلفا، لأنّ حشرها جملة واحدة أدلّ على القدرة. وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح، واجتمعت إليه الطير فسبحت، فذلك حشرها. وقرئ : والطير محشورة. بالرفع كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ كل واحد من الجبال والطير لأجل داود، أى : لأجل تسبيحه مسبح، لأنها كانت تسبح بتسبيحه. ووضع الأوّاب موضع المسبح : إمّا لأنها كانت ترجع التسبيح، والمرجع رجاع، لأنه يرجع إلى فعله رجوعا بعد رجوع وإمّا لأن الأواب - وهو التوّاب الكثير الرجوع إلى اللّه وطلب مرضاته - من عادته أن يكثر ذكر اللّه ويديم تسبيحه وتقديسه. وقيل : الضمير للّه، أى : كل من داود والجبال والطير للّه أؤاب، أى مسبح مرجع للتسبيح وَشَدَدْنا مُلْكَهُ قوّيناه، قال تعالى سَنَشُدُّ عَضُدَكَ وقرئ شددنا على المبالغة. قيل : كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مستلئم «٢» يحرسونه وقيل :
الذي شدّ اللّه به ملكه وقذف في قلوب قومه الهيبة : أنّ رجلا ادّعى عنده على آخر بقرة، وعجز عن إقامة البينة، فأوحى اللّه تعالى إليه في المنام : أن اقتل المدّعى عليه، فقال : هذا منام، فأعيد الوحى في اليقظة، فأعلم الرجل فقال : إنّ اللّه عزّ وجلّ لم يأخذنى بهذا الذنب، ولكن بأنى قتلت أبا هذا غيلة، فقتله، فقال الناس : إن أذنب أحد ذنبا أظهره اللّه عليه، فقتله،
(١). تقدم شرح هذا الشاهد ضمن أبيات بالجزء الثالث صفحة ٦٣ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٢). قوله «مستلئم» أى : لا بس اللأمة، وهي الدرع. أفاده الصحاح. (ع)