وانظر هل بقي له معنى قط. لما كان الظنّ الغالب يدانى العلم، استعير له. ومعناه : وعلم داود وأيقن أَنَّما فَتَنَّاهُ أنا ابتليناه لا محالة بامرأة أوريا، هل يثبت أو يزل؟ وقرئ : فتناه، بالتشديد للمبالغة. وأفتناه، من قوله :
لئن فتنتني لهى بالأمس أفتنت «١»
وفتناه وفتناه، على أن الألف ضمير الملكين. وعبر بالراكع عن الساجد، لأنه ينحنى ويخضع كالساجد. وبه استشهد أبو حنيفة وأصحابه في سجدة التلاوة، على أنّ الركوع يقوم مقام السجود. وعن الحسن : لأنه لا يكون ساجدا حتى يركع، ويجوز أن يكون قد استغفر اللّه لذنبه وأحرم بركعتي الاستغفار والإنابة، فيكون المعنى : وخرّ للسجود راكعا أى مصليا، لأنّ الركوع يجعل عبارة عن الصلاة وَأَنابَ ورجع إلى اللّه تعالى بالتوبة والتنصل. وروى أنه بقي ساجدا أربعين يوما وليلة لا يرفع رأسه إلا لصلاة مكتوبة أو ما لا بدّ منه ولا يرقأ دمعه حتى نبت العشب من دمعه إلى رأسه، ولم يشرب ماء إلا وثلثاه دمع، وجهد نفسه راغبا إلى اللّه تعالى في العفو عنه حتى كاد يهلك، واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له يقال له إيشا على ملكه ودعا إلى نفسه، واجتمع إليه أهل الزيغ من بنى إسرائيل، فلما غفر له حاربه فهزمه.
وروى أنه نقش خطيئته في كفه حتى لا ينساها. وقيل : إنّ الخصمين كانا من الإنس، وكانت الخصومة على الحقيقة بينهما : إما كانا خليطين في الغنم، وإما كان أحدهما موسرا وله نسوان كثيرة من المهائر والسراري، والثاني معسرا ماله إلا امرأة واحدة، فاستنزله عنها وإنما فزع لدخولهما عليه في غير وقت الحكومة أن يكونا مغتالين، وما كان ذنب داود إلا أنه صدّق أحدهما على الآخر وظلمه قبل مسألته «٢»
(١) لئن فتنتني لهى بالأمس أفتنت سعيدا فأمسى قد قلى كل مسلم
وألقى مصابيح القراءة واشترى وصال الغواني بالكتاب المنمنم
للأعشى الهمداني. وفتنته المرأة - بالتخفيف والتشديد - وأفتنته : دلهته وحيرته. و«لهى بالأمس أفتنت» جواب القسم المدلول عليه باللام في قوله : لئن فتنتني. وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم. والمعنى : إن فتنتني فلا أحزن ولا أتعجب، فان تلك عادتها من قبل، فالمراد بالأمس : الزمن الماضي. وسعيد : هو ابن جبير، كان عالما تقيا. وقلى كل مسلم، أى : بغض كل مسلم سواها. وعبر بالمسلم، لأنه يبعد بغضه. والمصابيح : يجوز أنها حقيقة، وأنها مجاز عن الكتب. والغواني : الجميلات. والمنمنم : المحسن بنقوش الكتابة.
(٢). قال محمود :«و نقل بعضهم أن هذه القصة لم تكن من الملائكة وليست تمثيلا وإنما كانت من البشر إما خليطين في الغنم حقيقة، وإما كان أحدهما موسرا وله نسوان كثيرة من المهاتر والسراري والثاني معسرا وماله إلا امرأة واحدة، فاستنزله عنها، وفزع داود، وخوفه أن يكونا مغتالين لأنهما دخلا عليه في غير وقت القضاء، وما كان ذنب داود إلا أنه صدق أحدهما على الآخر ونسبه إلى الظلم قبل مسألته» قال أحمد : مقصود هذا القائل تنزيه داود عن ذنب يبعثه عليه شهوة النساء، فأخذ الآية على ظاهرها وصرف الذنب إلى العجلة في نسبة الظلم إلى المدعى عليه، لأن الباعث على ذلك في الغالب إنما هو التهاب الغضب وكراهيته أخف مما يكون الباعث عليه الشهوة والهوى، ولعل هذا القائل يؤكد رأيه في الآية بقوله تعالى عقبها وصية لداود عليه السلام : يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فما جرت العناية بتوصيته فيما يتعلق بالأحكام إلا والذي صدر منه أولا وبان منه من قبيل ما وقع له في الحكم بين الناس، وقد التزم المحققون من أئمتنا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام : داود وغيره - منزهون من الوقوع في صغائر الذنوب مبرؤن من ذلك، والتمسوا المحامل الصحيحة لأمثال هذه القصة، وهذا هو الحق الأبلج، والسبيل الأبهج، إن شاء اللّه تعالى.