أَيُّوبَ عطف بيان. وإِذْ بدل اشتمال منه أَنِّي مَسَّنِيَ بأنى مسنى : حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه، ولو لم يحك لقال بأنه مسه : لأنه غائب. وقرئ بِنُصْبٍ بضم النون وفتحها مع سكون الصاد، وبفتحهما، وضمهما، فالنصب والنصب : كالرشد والرشد، والنصب : على أصل المصدر، والنصب : تثقيل نصب، والمعنى واحد، وهو التعب والمشقة. والعذاب : الألم، يريد مرضه وما كان يقاسى فيه من أنواع الوصب «١». وقيل : الضرّ في البدن، والعذاب في ذهاب الأهل والمال فإن قلت : لم نسبه إلى الشيطان، ولا يجوز أن يسلطه اللّه على أنبيائه ليقضى من إتعابهم وتعذيبهم وطره، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا وقد نكبه وأهلكه، وقد تكرّر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب؟ قلت : لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سببا فيما مسه اللّه به من النصب والعذاب، نسبه إليه، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى اللّه في دعائه، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو. وقيل : أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء، ويغريه على الكراهة والجزع، فالتجأ إلى اللّه تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل. وروى أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين، فارتدّ أحدهم، فسأل عنه فقيل ألقى إليه الشيطان : إن اللّه لا يبتلى الأنبياء والصالحين، وذكر في سبب بلائه أنّ رجلا استغاثه على ظالم فلم يغثه. وقيل : كانت مواشيه في ناحية ملك كافر، فداهنه ولم يغزه. وقيل : أعجب بكثرة ماله ارْكُضْ بِرِجْلِكَ حكاية ما أجيب به أيوب، أى : اضرب برجلك الأرض. وعن قتادة : هي أرض الجابية «٢» فضربها، فنبعت عين فقيل هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ أى هذا ماء تغتسل به وتشرب منه، فيبرأ باطنك وظاهرك، وتنقلب مآبك قلبة «٣».
وقيل : نبعت له عينان، فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى، فذهب الداء من ظاهره وباطنه بإذن اللّه، وقيل : ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها، ثم باليسرى فنبعت باردة فشرب منها رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى مفعول لهما. والمعنى : أنّ الهبة كانت للرحمة له ولتذكير أولى الألباب، لأنهم إذا سمعوا بما

__
(١). قوله «من أنواع الوصب» في الصحاح «الوصب» : المرض. (ع)
(٢). قوله «هي أرض الجابية» مدينة بالشام كما في الصحاح. (ع)
(٣). قوله «و تنقلب ما بك قلبة» في الصحاح «القلاب» داء يأخذ البعير. وقولهم : ما به قلبة، أى : ليست به علة. (ع)


الصفحة التالية
Icon