المفردات في غريب القرآن، ص : ٤٧٩
وإمّا أن يوصف تارة بالصّدق، وتارة بالكذب على نظرين مختلفين، كقول كافر إذا قال من غير اعتقاد : محمّد رسول اللّه، فإنّ هذا يصحّ أن يقال : صِدْقٌ، لكون المخبر عنه كذلك، ويصحّ أن يقال : كذب، لمخالفة قوله ضميره، وبالوجه الثاني إكذاب اللّه تعالى المنافقين حيث قالوا :
نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ... الآية [المنافقون / ١]، والصِّدِّيقُ : من كثر منه الصّدق، وقيل : بل يقال لمن لا يكذب قطّ، وقيل : بل لمن لا يتأتّى منه الكذب لتعوّده الصّدق، وقيل : بل لمن صدق بقوله واعتقاده وحقّق صدقه بفعله، قال :
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا [مريم / ٤١]، وقال : وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا [مريم / ٥٦]، وقال : وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ
[المائدة / ٧٥]، وقال :
فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ
[النساء / ٦٩]، فَالصِّدِّيقُونَ هم قوم دُوَيْنَ الأنبياء في الفضيلة على ما بيّنت في «الذّريعة إلى مكارم الشّريعة» «١». وقد يستعمل الصّدق والكذب في كلّ ما يحقّ ويحصل في الاعتقاد، نحو : صدق ظنّي وكذب، ويستعملان في أفعال الجوارح، فيقال :
صَدَقَ في القتال : إذا وفّى حقّه، وفعل ما يجب وكما يجب، وكذب في القتال : إذا كان بخلاف ذلك.
قال : رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ
[الأحزاب / ٢٣]، أي : حقّقوا العهد بما أظهروه من أفعالهم، وقوله : لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب / ٨]، أي : يسأل من صدق بلسانه عن صدق فعله تنبيها أنه لا يكفي الاعتراف بالحقّ دون تحرّيه بالفعل، وقوله تعالى : لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ
[الفتح / ٢٧]، فهذا صِدْقٌ بالفعل وهو التّحقّق، أي : حقّق رؤيته، وعلى ذلك قوله : وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ
[الزمر / ٣٣]، أي : حقّق ما أورده قولا بما تحرّاه فعلا، ويعبّر عن كلّ فعل فاضل ظاهرا وباطنا بالصّدق، فيضاف إليه ذلك الفعل الذي يوصف به نحو قوله : فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ
[القمر / ٥٥]، وعلى هذا : أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس / ٢]، وقوله :
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ [الإسراء / ٨٠]، وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ
[الشعراء / ٨٤]، فإنّ ذلك سؤال أن يجعله اللّه تعالى صالحا، بحيث إذا أثنى عليه من بعده لم يكن ذلك الثّناء كذبا بل
(١) انظر : الذريعة ص ٧١، باب أصناف الناس.