إذ قد عَلِمَ السامعُ أنَّ السيلَ لا يحط جلمودَ صخرٍ إلا من أعلى ولكنه أراد التصوير"١.
٤) وهو رأي للألوسي، فبعد أن ذكر ما أوردناه أولاً قال: "وعندي أن الذكر (يعني ذكر السماء) يحتمل أن يكون أيضا للتهويل والإِشارة إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم، وذلك أبلغ في الإِيذاء كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ﴾ ٢. وكثيراً ما نجد أنَ المرءَ يعتني بحفظ رأسه أكثر مما يعتني بحفظ سائر أطرافه حتى أن المستطيع من الناس يتخذ طيلسانا لذلك" ٣.
(قلتُ) ولا يمنع من اعتقاد صحة هذه الأقوال جميعاً، فذكر السماء بعد ذكر الصيب فيه إشارة إلى نزوله من آفاق السماء ومن ارتفاع، وهو وصف كاشف لزيادة استحضار الصورة، وبيان أن العذابَ جاء من فوق رؤوسهم فهي معاني لا تعارض بينهما. وبلاغةُ القرآن قد تدل عليها وعلى ما هو أكثر منها، وهكذا كلما كشفت طائفةُ وجهاً بلاغياً انكشف لطائفة أخرى وجهٌ آخر يُعلن للناس أنَّ بلاغة القرآن متجددة وأن معينها لا ينضب.
٢- قوله تعالى: ﴿وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ ٤. وقوله ﴿مُفْسِدِينَ﴾ بدهية لغوية إذ يدل عليه المدلول اللغوي لقوله: ﴿وَلا تَعْثَوْا﴾، والعثو: أشد الفساد٥، فكأنه قال: (ولا تفسدوا في الأرض مفسدين).
٢ سورة الحج: الآية ١٩.
٣ روح المعاني. الآلوسي، ١ج ص١٧١.
٤ سورة البقرة الآية٦٠.
٥ الكشاف: الزمخشري ج١ ص ٧٢. تفسير البسيط: الواحدي، ج٣ ص٩٥٧.