ج ١، ص : ٥٩٠
ذلك، كل هذه أساليب تفيد المبالغة وتأكيد النزول وتأكدهم منه، ومع هذا يقولون :
إن هذا إلا سحر مبين.
وكان الكفار قد اقترحوا اقتراحين، أولهما : أن ينزل على الرسول ملك من السماء يرونه ويكون معه نذيرا ومؤيدا له ونصيرا، وذلك أنهم يفهمون أن الرسول بشر والرسالة تتنافى مع البشرية ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ « ١ ». وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [سورة الفرقان آية ٧].
وقد حكى اللّه عنهم هذا كثيرا في سورة هود وإبراهيم وغيرهما.
وقد رد اللّه اقتراحهم هذا بأنه لو أنزل ملكا كما اقترحوا لقضى الأمر وهلكوا ثم لا ينظرون ولا يمهلون إذ جرت سنة اللّه في خلقه، إذا تعصب قوم وطلبوا آية غير التي أنزلت إليهم، وأجيبوا إلى طلبهم، ثم لم يؤمنوا، يهلكهم اللّه بعذابه ويقضى عليهم.
وهؤلاء من أمة الدعوة المحمدية، وقد قضى اللّه ألا يهلكهم بعذاب الاستئصال تكريما للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وعسى أن يأتى من نسلهم من يعبد اللّه حقا، وقد كان هذا.
الاقتراح الثاني : هلا نزّلت الملائكة علينا بالرسالة، وكان الرسول ملكا لا بشرا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً « ٢ » فأنت ترى أن اقتراحهم الثاني مبنى على الغرور الكاذب والجهل الفاضح وأن هذا النبي الأمين الصادق الكريم لا يستحق هذه الرسالة فإن كان ولا بد من إرسال بشر فنحن أولى منه وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا « ٣ ».
فيرد اللّه عليهم : لو جعلنا الرسول ملكا لجعلناه رجلا حتى يمكن التفاهم معه والأنس به ومخاطبته، ولو جعلناه بشرا لعاد الأمر كما كان وللبسنا عليهم واختلط الأمر عندهم، فإن هذا الرجل سيقول لهم : إنى رسول اللّه كما يقول محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أما اختصاص محمد دون غيره بالرسالة وتشريفه بالنبوة فاللّه أعلم حيث يجعل رسالته.
(١) سورة المؤمنون آية ٣٣.
(٢) سورة المؤمنون آية ٢٤.
(٣) سورة الزخرف آية ٣١ - ٣٢.