ج ١، ص : ٨٨٩
كان دأب المؤمنين إذا دعوا إلى الجهاد لبوا مسرعين نشطين لأنهم ينتظرون إحدى الحسنيين : إما الشهادة والأجر، أو الغنيمة والنصر.
ولما دعاهم الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم إلى غزوة تبوك تثاقل بعضهم لأسباب رآها، هذا التثاقل تختلف درجاته تبعا لقوة الإيمان وشدة العذر، وقد نفرت الأكثرية طائعة وتخلفت قلة عاجزة معذورة. أما المنافقون فقد كبر عليهم الأمر، وشق عليهم الخطب. كيف يقاتلون في تبوك أكبر دولة في العالم ؟ ! فطفقوا ينتحلون الأعذار، ويستأذنون في القعود، والتخلف فيأذن لهم الرسول قبل بيان حالهم والوقوف على أسرارهم.
فكانت هذه الآيات الفاضحة للمنافقين، الكاشفة عن أخلاقهم وطبائعهم.
روى أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال للجند بن قيس لما أراد الخروج إلى تبوك :« يا جدّ هل لك في جلاد بنى الأصفر تتخذ منهم سرارى ووصفاء ؟ » فقال الجد : قد عرف قومي أنى مغرم بالنساء وإنى أخشى إن رأيت بنى الأصفر ألا أصبر عنهن، فلا تفتني وأذن لي في القعود وأعينك بمالي، فأعرض عنه الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وقال : قد أذنت لك. فنزلت هذه الآية.
المعنى :
لو كان ما دعوا إليه - هؤلاء المنافقون - عرضا قريبا، ومغنما سهل المأخذ قريب المنال، ولو كان سفرا ذا قصد وسهولة ليس فيه مشقة ولا تعب، لو كان هذا أو ذاك لاتبعوك وأجابوك إلى طلبك، ولكن بعدت عليهم الشقة التي دعوا إليها وهي غزوة تبوك، وكبر عليهم التعرض لقتال الروم في ملكهم وعقر دراهم، والروم أكبر دولة حينئذ، نعم كبر عليهم ذلك فتخلفوا جبنا وميلا للراحة والدعة، وسيحلفون بعد رجوعكم إليهم قائلين : لو استطعنا لخرجنا معكم مجاهدين غازين، فإننا لم نتخلف إلا لعدم استطاعة الغزو وفقد المال والظهر، وما علموا أنهم يهلكون أنفسهم باليمين الكاذبة
« اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع » (حديث شريف)
، واللّه يعلم إنهم لكاذبون، وسيجازيهم على ذلك كله..
روى أن ناسا قالوا لبعضهم : استأذنوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.


الصفحة التالية
Icon