ج ٢، ص : ٧٦١
المعنى :
هذه هي قصة نوح الذي عاش في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى عبادة اللّه، وترك الشرك وعبادة الأوثان، ومع ذلك كذبه قومه فقال اللّه فيهم : كذبت قوم نوح المرسلين، فإن من كذب رسولا واحدا فقد كذب الكل لأن الرسول يدعو إلى الإيمان بجميع الرسل وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [سورة البقرة آية ٢٨٥].
كذبوا إذ قال لهم أخوهم نوح : ألا تتقون! أتدعون صنما وتذرون أحسن الخالقين، واللّه ربكم ورب آبائكم الأولين، إنى يا قوم لكم رسول أمين في رسالتي صادق في دعواي أنى رسول رب العالمين، فاتقوا اللّه، وأطيعونى، وإنى لا أرى سببا لعصياني وتكذيبي وأنا أخوكم تعرفون عنى ما تعرفون من شرف النسب وكرم الخلق وصدق الحديث، وأنا لا أطلب بدعوتي مالا ولا جاها ولا ملكا، وما أجرى إلا على ربي، وليس جزائي إلا عنده فما لكم تكفرون ؟ فيا قوم اتقوا اللّه وأطيعونى.
قالوا يا نوح : أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ؟ لم يجدوا حجة تؤيدهم في ترك الإيمان إلا أنه قد اتبعه ضعاف الناس وفقراء القوم.
يا للعجب! الحياة يوم مكرر، فقديما وحديثا منع الناس من الإيمان ذلك الفهم السيئ، وذلك الغرور الكاذب الذي أوقع إبليس في العصيان لأنه اغتر وقال : أأسجد لآدم، وأنا خير منه خلقتني يا رب من نار وخلقته من طين، ومنع أشراف قريش من الإيمان بمحمد لأنه آمن به بلال وصهيب وغيرهم من عامة الناس.
وهؤلاء أتباع نوح يقولون : أنؤمن لك ونصدق بك وقد اتبعك الأرذلون أصحاب الحرف الوضيعة. لا يمكن، نحن أشراف القوم! فيقول لهم نوح : وما علمي بما كانوا يعملون، لم أكلف العلم بأعمالهم وأحسابهم وأنسابهم. إنما كلفت بدعواهم للإيمان برب العالمين فاستجابوا لي، وآمنوا بي بعد إيمانهم باللّه وملائكته واليوم الآخر، وأما أعمالهم فحسابهم على ربي لا علىّ، يا ليتكم تشعرون بذلك، لو تشعرون وتعلمون أن حسابهم على ربهم لما عاتبتمونى بصنائعهم، وما أنا بطارد المؤمنين مهما كانوا من فقر أو ضعف أو رقة حال فالكل سواء، ولا فضل لأحد إلا بالعمل الصالح، وما أنا إلا نذير مبين.