ج ٢، ص : ٨٣٩
إنك لا تهدى من أحببت من الناس، ولا تدخلهم في حظيرة الإيمان، إنما عليك فقط البلاغ والدعوة إلى اللّه وبيان الشريعة الغراء، ولكن اللّه - سبحانه - يهدى من يشاء ويوفقه ويشرح صدره للإسلام أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ. لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ نعم اللّه يهدى من يشاء، وله الحكمة البالغة، والعلم الكامل بخفيات القلوب وبذات الصدور، وهو أعلم بمن عنده الاستعداد للهداية والخير، فيهديه ويوفقه، وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبى طالب عم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والكل يعلم أنه كان يحوط النبي ويرعاه، ويحبه حبا شديدا ويتولاه، فلما حضرته الوفاة وحان أجله دعاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى الإيمان والدخول في الإسلام فسبق القدر فيه، ولم يرد اللّه به خيرا، فاستمر على ما كان عليه من الكفر، وللّه الحكمة البالغة.
وقال بعض المشركين معتذرا بأعذار واهية : إننا إن اتبعنا الهدى الذي جئتنا به، والنور الذي أنزل معك نخشى إن فعلنا ذلك أن يقصدنا المشركون وأحياء العرب من كل جانب بالأذى والحرب ويأخذونا بسرعة وشدة لا قبل لنا بها، ألم تر إليهم وقد خافوا المخلوق الضعيف وأمنوا مكر الخالق الكبير ذي البطش الشديد الفعال لما يريد ؟ ! عجبا لهؤلاء أنسوا ولم يعلموا أن اللّه مكن لهم في الأرض، وأنزلهم بلادا جعلها حرما آمنا، يقدسه العرب جميعا، وتحج إليه، وتحترم سكانه وأهله وتدين لهم بالإمارة والسيادة عليهم، فيه أسواقهم واجتماعاتهم، وفي بلادهم يأمن الخائف، ويطمئن القاتل وتسكن نفس المعتدى، فالعرب كانت تحرم الاعتداء في الحرم، وفي الأشهر الحرم، وكل هذا بتوفيق اللّه، وهو الذي جعل في قلوب الناس شوقا إليه وحنينا لزيارته وحجه فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ فكانت فيه الثمرات من كل جهة رخيصة كثيرة، جعلها اللّه من لدنه رزقا لأهله، أظن هذا العذر الواهي لا يكون مقبولا بعد هذا كله، ولكن أكثر الناس لا يعلمون وهذا رد آخر لقولهم :
إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا إذ هم قد اعتقدوا خطأ أنهم ماداموا على شركهم فإنهم في أمن ودعة، وإن اتبعوا الرسول نزل بهم البلاء، فبين اللّه لهم أن الأمر بالعكس، وأنهم إن تركوا الشرك وأسلموا للّه رب العالمين أمنوا من عذاب الدنيا والآخرة، وكانوا عند اللّه من المقربين، وإن ظلوا على دينهم وتمسكوا بباطلهم


الصفحة التالية
Icon