ج ٣، ص : ١٧
للحياة، وهكذا وهكذا من ذلك كثير كما يعرفه علماء الطب والتشريح، ولقد صدق اللّه حيث يقول : وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [سورة الذاريات آية ٢١].
أو لم يتفكروا في أنفسهم، وهي أقرب الأشياء إليهم فيعلموا أن خلق السموات والأرض وما فيها لا يمكن أن يكون إلا وفق حكمة الحكيم وتدبير الخبير البصير وأنه لا بد لهذا الكون من آخر، وله نهاية ينتهى إليها للحساب والعقاب، وأنه لا يعقل أبدا أن يخلق عبثا إلا لحكمة أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون ١١٥].
وقيل : أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ معناه : أو لم يحدثوا التفكير في أنفسهم وفي قلوبهم الفارغة الخالية من الفكر والتفكير فيعلموا أنه ما خلق السموات والأرض إلا بالحق، أى : ما خلقهما باطلا وعبثا بغير غرض صحيح، وحكمة بالغة، وإنما خلقهما خلقا مقرونا بالحق مصحوبا بالحكمة، والتقدير إلى أجل مسمى عنده، ينتهى إلى قيام الساعة.
وإن كثيرا من الناس بعد هذا كله بلقاء ربهم لكافرون وجاحدون.
ثم انتقل بعد هذا إلى الدلائل المحسوسة والشواهد الناطقة بهلاك أمثالهم ومن هم أشد منهم قوة وأكثر مالا، وإثارة للأرض حتى عمروها لعلهم يعتبرون.
أو لم يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار من قبلهم من عاد وثمود وغيرهم من الأمم العاتية وقد كانوا أشد من كفار مكة قوة في المال والرجال! وكانوا أصحاب زرع وضرع، وعمارة وبناء، وقد عمروا الأرض أكثر مما عمرها العرب، وقد جاءتهم رسلهم بالبينات، وأمروهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فلما كذبوا رسلهم أخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر وما كان اللّه ليظلمهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
ثم كان عاقبة الذين أساءوا هي السوأى، أى : أن ما تقدم من الهلاك كان عقابا لهم في الدنيا، وأما في الآخرة فلهم السوأى، أى : جهنم، لأنهم كفروا برسلنا وكذبوا بآياتنا، وكانوا بها يستهزئون، فانظروا يا آل مكة إلى أنفسكم، فأنتم أولى بالهلاك في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة فهل من مدكر ؟ ؟
ولا غرابة في ذلك فاللّه يبدئ الخلق ثم يعيده، ثم إليه ترجعون، واذكروا يوما ترجعون فيه إلى اللّه، ويبلس فيه المجرمون، من شدة الأهوال فيسكتون وتنقطع عنهم