ج ٣، ص : ٢٠٧
خمر الآخرة لا فيها غول، ولا هم ينزفون، ما أروع هذا التعبير وما أبلغه!! خمر الآخرة ليس فيها فساد، ولا هلاك للنفس، وللعقل، وللمال، ولا للشخصية، أى :
لا فيها غول، وليس هم لأجلها ينزفون، أى : لا تذهب الخمر عقولهم، ولعل إفراد هذا بالذكر مع أنه داخل في عموم قول : لا فيها غول دليل على أن فساده كثير، وخطر ضياع العقل كبير، حتى كأنه جنس يستحق الذكر برأسه.
وعندهم زوجاتهم قاصرات الطرف، قد قصرن أبصارهن عليهم فلا يمددن طرفا إلى غيرهم، فهن عرب - متحببات إلى أزواجهن - أتراب، عين، واسعات العيون والأحداق ومع هذا فهن قاصرات الطرف، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، كأنهن البيض المكنون في البياض والصفاء، والحفظ والنقاء.
يطاف عليهم بخمر كأنها النهر فيشربون ويتحادثون كما هي عادة المجتمعين للشرب.
فأقبل بعضهم على بعض يتجاذبون أطراف الحديث يتساءلون عما جرى لهم في الدنيا، وما أحلى الذكرى عند فراغ البال، ورفاهية الحال.
ماذا قالوا ؟ قال قائل منهم في أثناء حديثه : إنى كان لي قرين في الدنيا يقول موبخا ومؤنبا لي على ما كنت عليه من الإيمان والتصديق بالبعث يقول : أإنك لمن المصدقين بيوم القيامة ؟ أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما نبعث ؟ أإنا لمدينون، أى : لمبعوثون مجازون ؟ وهكذا يقول الكفار! قال ذلك القائل الذي كان له قرين يعترض عليه لأنه آمن قال لجلسائه : هل أنتم مطلعون « ١ » على أهل النار لأريكم هذا القرين ومآله، فاطلع على أهل النار من كوة أو على كيفية - اللّه أعلم بها - فرآه - أى : القرين - في وسط الجحيم يتلظى بالنار المسعرة التي وقودها الناس والحجارة، وبئس القرار.
وماذا قال له ؟ قال لقرينه : تاللّه إن كدت وقاربت لتردينى وتهلكني بما كنت تفعله معى، ولو لا نعمة ربي وتوفيقه وهدايته لكنت من المحضرين للعذاب كما أحضرت أنت وأحزابك.
أفما نحن بميتين إلا بموتتنا الأولى « ٢ » وهذا رجوع إلى محاورة جلسائه ابتهاجا بما منحه
(١) - الاستفهام هنا مراد به العرض أو الأمر، أى : اطلعوا.
(٢) - الاستفهام للتقرير فيه معنى التعجب، والفاء فيه للعطف، والمعطوف عليه تقديره : أنحن مخلدون ؟