ج ٣، ص : ٤٥٢
المعنى :
من الحقائق الثابتة في كتب التاريخ والسيرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعد موت خديجة وموت أبى طالب الذي كان درعه الواقي، وبعد أن أسرفت قريش في إيذائه، خرج إلى الطائف موطن قبائل ثقيف لعله يجد فيهم الناصر والذائد عنه، ولكنهم ردوه ردّا غير جميل، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع الناس وألجئوه إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فرجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، بعد أن أدموا رجليه واختضبت نعلاه بالدم.
وهكذا الأنبياء والمرسلون والمصلحون دائما يلقون العنت والمشقة من بنى وطنهم ولما عاد صلّى اللّه عليه وسلّم من الطائف بعد أن لقى من ثقيف وغلمانها ما لقى، واتجه إلى اللّه في تضرع وخشوع قائلا :
« اللهم إنى أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، لمن تكلني ؟ ! إلى عبد يتجهمني - يلقاني بالغلظة والشدة - أو إلى عدو ملكته أمرى! إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى. ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك أو يحل على سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك ».
وكان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم نازلا في موضع يسمى (نخلة) من ضواحي مكة، وبينا هو يصلى في جوف الليل يقرأ القرآن، ويناجى صاحب الملك والجبروت إذ صرف اللّه إليه سبعة من أشراف الجن، فاستمعوا إليه، وهو يقرأ، ولم يشعر بهم ساعة نزولهم عليه وانصرافهم إلى قومهم، ونزل قوله تعالى : وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ (الآية) نزلت تطييبا لخاطره، وشدّا لعزيمته وتقوية لروحه، وبرهانا دامغا لأولئك المشركين الضالين، وبعد ذلك ازداد يقينه بالإسراء والمعراج إلى الملأ الأعلى، ولا شك أن فيها ترفيها روحيا وسموا نفسيا واتصالا ولقاء وتسلية وعزاء.
واذكر يا محمد لقومك وقت أن صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروا القرآن وأنت تتلوه، قالوا لبعضهم : أنصتوا أدبا لهذا الحديث الذي ما سمعنا مثله أبدا، فلما قضى وانتهى النبي منه، رجعوا إلى قومهم منذرين يقولون : إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد فآمنا به، ولن نشرك بربنا أحدا، وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا، وأنه كان يقول سفيهنا على اللّه شططا، يا قومنا : إنا سمعنا كتابا