ج ٣، ص : ٤٩٢
سلما - باستسلام منهم وإذعان - فهم قد أخذوا قهرا واستسلموا عجزا، واستحييناهم فأنزل اللّه وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وكان اللّه بما تعملون بصيرا وسيجازيكم على ذلك بالجزاء الأوفى.
ولم يكن كفهم عنكم لخير فيهم فإنهم كفروا باللّه ورسوله، وأخرجوا رسول اللّه من مكة، وصدوكم عن المسجد الحرام. وصدوا الهدى - ما يهدى إلى البيت من النعم حالة كون الهدى معكوف ومحبوسا من أن يبلغ محله، وكل ذلك يقتضى قتالهم، فلا يعقل أن يقال : إن الفريقين اتفقوا على عدم القتال، واصطلحوا ولم يبق بينهم نزاع بل النزاع مستمر لأنهم كفروا وصدوا عن المسجد الحرام ومنعوا الهدى من أن يبلغ محله.
وإنما كان الكف والمنع لحكم إلهية اللّه يعلمها، منها أن هناك رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموا أشخاصهم، واللّه يعلمهم، فإذا كان القتال ولم يكن الكف لقتلتم هؤلاء، وأنتم لا تعلمونهم فتصيبكم منهم معرة وعيب ومكروه ومشقة حيث تجب الكفارة ويحصل الأسف لقتلهم، وخلاصة المعنى : ولو لا كراهة أن تهلكوا في الحرب رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات بين ظهراني الكفار، وأنتم لا تعلمونهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه لما كف أيديكم عنهم، واللّه يكره أن يصيبكم مكروه ومعرة، ولكن اللّه - سبحانه - كفكم عنهم، وكفهم عنكم ليدخل اللّه بذلك الكف من يشاء في رحمته، أى : في توفيقه لزيادة الخير في الإسلام ومنع إيذاء من لا يستحق من المؤمنين الذين يعيشون في مكة.
لو تميز المؤمنون عن الكفار في مكة، وافترق بعضهم عن بعض، لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما في الدنيا بالقتل والأسر غير عذاب الآخرة « ١ ».
اذكر إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية الأولى حيث أنفوا من كتابه بسم اللّه الرحمن الرحيم، ومن وصف النبي بأنه رسول اللّه، ومن تمسكهم بشروط هي في ظنهم مجحفة بالمسلمين، فأنزل اللّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين

_
(١) - وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها، وجوز بعضهم أن يكون (لو تزيلوا) كالتكرار لقوله تعالى : لو لا رجال مؤمنون، وقوله :(لعذبنا) هو جواب لو لا.


الصفحة التالية
Icon