ج ٣، ص : ٥٣١
وهنا بحث آخر : في جميع السور التي بدئت بالقسم بغير الحروف كالسورة التي معنا نجد أن المقسم عليه واحد من ثلاثة : التوحيد... الرسالة... البعث، تلك أصول الدين العامة، ويلاحظ أن سورة الصافات وحدها هي التي أقسم فيها على التوحيد فقال اللّه إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ وفي سورة النجم. والضحى، أقسم على صدق الرسول حيث قال : ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وقال : وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى وبقية السور كان المقسم عليه فيها هو البعث والجزاء وما يتعلق به لأنهم أنكروا البعث وبالغوا في إنكاره، وصدق اللّه حيث يقول :
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ.
أقسم اللّه بالرياح التي تذرو التراب ذروا، وتبدده في كل مكان، فالرياح التي تحمل السحب الموقرة بالماء المحملة بالمطر، فالرياح التي تجرى جريا سهلا فتحمل السحب، وتدفع السفن، فالتي تقسم المطر على الأماكن التي يريدها اللّه، فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء وهو على كل شيء قدير وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن الذاريات فقال : هي الرياح، وسئل عن الحاملات فقال : هي السحاب، وسئل عن الجاريات يسرا فقال : هي السفن، وسئل عن المقسمات أمرا فقال : هي الملائكة، ويقول عمر - رضى اللّه عنه - في ذلك كله : لو لا أنى سمعت رسول اللّه يقول بهذا ما قلته
واللّه أعلم بكتابه، أقسم اللّه بهذا على أن ما توعدون به لصادق ومتحقق الوقوع، وأن الدين والجزاء لواقع وفي تخصيص المذكورات بالقسم رمز إلى شهادتها بتحقيق المقسم عليه وهو البعث من حيث إن من قدر على ذلك فهو قادر على تحقيق الوعد بالبعث، إذ الرياح تذرو ذرات المياه، وتحملها إلى طبقات الجو العالية، فتتجمع سحبا بعد تفرقها، ثم تجرى بيسر وسهولة إلى حيث شاء فتنزل مطرا أليس القادر على ذلك بقادر على أن يعيد الخلق بعد تفرق أجزائه وانحلاله في التراب أو الجو أو البحار ؟ ! وأقسم اللّه كذلك بالسماء ذات الحبك، أى : الطرق المحسوسة التي تسير فيها الكواكب أو هي ذات الخلق البديع القوى، وذات الزينة بالنجوم، على أنكم - يا كفار مكة - في قول مختلف متباين، فتارة تقولون على النبي : إنه شاعر، وطورا إنه ساحر، ومرة : إنما يعلمه بشر، وأخرى : إنه مجنون وهذا دليل على التخبط وسوء الرأى ليس الأمر كذلك وإنما يصرف عن الرأى الحق والإيمان الكامل من صرف


الصفحة التالية
Icon