ج ٣، ص : ٥٤٢
ولكن ذكّر وعظ، ولا تدع ذلك، فإن الذكرى تنفع المؤمنين الذين قدر اللّه لهم الإيمان والاتعاظ.
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وهذا كلام جديد مستأنف لتقرير وتأكيد الأمر بالتذكر، فإن خلقهم للعبادة، مما يدعو النبي صلّى اللّه عليه وسلم ومن دعا بدعوته إلى تذكير الناس دائما حيث خلقهم اللّه للعبادة، وما المراد بالعبادة ؟ هل هي التسخير الثابت لجميع الخلق والدلالة التامة الكاملة على وجود الخالق، الذي عبر عنه بالسجود في قوله تعالى : وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ « ١ » ؟ أم هي العبادة الاختيارية التي يوصف بها المؤمنون ؟ والظاهر هو المعنى الثاني وعلى ذلك فما معنى كون الجن والإنس ما خلقت إلا للعبادة ؟ مع قوله تعالى : وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ « ٢ » أى : خلقنا لجهنم خلقا كثيرا يفعل ما به يدخلها، وهذا يدل على إرادة المعاصي لكثير، ويتنافى مع إرادة العبادة من الجن والإنس، ولعل المخلص من ذلك أن اللّه خلق الخلق صالحين للعبادة مستعدين لها، فيهم العقول والحواس التي تدعوهم إلى عبادة اللّه، ولما خلقهم على ذلك الوضع جعل خلقهم مغيا بغاية هي العبادة، والذي يؤيد ذلك أن أفعاله تعالى تنساق إلى الغايات الكاملة، وكون بعض الناس أو كثير من الناس لا يصل إلى تلك الغاية لا يمنع كون الغاية غاية ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ما أريد من الخلق رزقا، وما أريد أن يطعموني، وقيل : المعنى ما يريد منهم أن يرزقوا أحدا من خلقه، ولا يريد أن يطعموا أحدا، فاللّه حين يكلفهم بشيء لم يكلفهم لغرض يعود عليه، ولكن لنفع عائد على المكلفين الممتثلين أمر اللّه.
إن اللّه هو الرزاق الذي يرزق من يشاء، ذو القوة والبطش، القوى المتين.
إذا ثبت أن اللّه تعالى ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه، وأنه سبحانه ما يريد منهم من رزق ولا يريد منهم أن يطعموه بل هو الرزاق ذو القوة المتين. إذا كان الأمر كذلك فإن للذين ظلموا أنفسهم باشتغالهم بغير ما خلقوا له من العبادة، وإشراكهم باللّه، وتكذيبهم لرسول اللّه، فإن لهؤلاء نصيبا من العذاب كبيرا، نصيبا مثل نصيب نظرائهم من الأمم السالفة، وهو واصل لهم بلا شك فلا يستعجلون ولا يطلبون من اللّه التعجيل فويل ثم ويل للذين كفروا وكذبوا بالبعث من يومهم الذي يوعدونه على لسان الرسل الكرام، وهذا ختام سورة بديع.

_
(١) - سورة الرحمن آية ٦.
(٢) - سورة الأعراف آية ١٧٩.


الصفحة التالية
Icon