ج ٣، ص : ٧١٦
انظر إلى ترتيب الآيات ترتيبا محكما دقيقا حيث ذكرهم ربك بنعمة صلاحية الأرض للمعيشة، ثم حذرهم عاقبة التمادي في الباطل، وأن من الحكمة ألا يأمنوا زوال النعم فإن اللّه قادر على سلبهم إياها، فبعد أن تكون الأرض ذلولا تصبح كالفرس الجموح فترجف وتضطرب اضطراب خسف وهلاك حتى تبتلعهم، وكأن العرب استبعدوا هذا، فأضرب الحق - تبارك وتعالى - عن تهديدهم بهذا إلى تهديدهم بشيء كثير الحصول عندهم، وهو الريح الحاصب التي تنزع الناس، وتتركهم هلكى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية ؟ ! وفيه يتبين إنذار اللّه لهم حقا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ؟ ! ثم أراد اللّه أن يهددهم بأسلوب آخر يكون بلفت نظرهم إلى من تقدمهم من الأمم التي كذبت رسلها، وأبيدت عن آخرها، وفي ذلك سلوى للرسول الأكرم.
ولقد كذب الذين من قبلهم من الأمم السابقة التي عرفوها، وكانوا يمرون على آثارهم، فغضب اللّه عليهم وأذاقهم عذاب الحياة الدنيا، وخسف بهم الأرض، وأهلكهم وتلك آثارهم، فانظروا كيف كان نكيري وسخطى على الكفار ؟ ! هؤلاء كذبوا برسلهم، واستخفوا بوعيدهم، واغتروا بمالهم، فكانت عاقبة أمرهم خسرا في الدنيا والآخرة، وكان المشركون من العرب يعتقدون أن ما يهددون به لن يحل أبدا، فذكرهم بما حل بغيرهم. وذكر لهم بعض آيات قدرته في الكون ليعلموا أن اللّه على كل شيء قدير. فقال ما معناه : أليس من عجائب القدرة ما يراه الإنسان في كل وقت وآن، من تحليق الطيور في أجواز الفضاء، من الذي رفعها، ومن الذي منعها من السقوط، ومن الذي أوجد فيها القدرة على الطيران، وللتحرك في السماء، من الذي ركبها تركيبا به تقوى على ذلك ؟ أليس هذا من عجائب صنع اللّه ؟ أعموا ولم يروا إلى الطير فوقهم صافات أجنحتهن تارة، ويقبضنها تارة أخرى، ما فعل هذا إلا الرحمن الذي سهل لذلك الحيوان وسائل الطير والانتقال، كان هذا أساسا لتفكير الإنسان في الطيران، إنه بكل شيء بصير.. بسط الطائر لجناحه أساس طيرانه، وقد يبقى مستمرّا عليه ساعات، وقبضه له وهو يطير قليل الحصول، عارض متجدد. ومن هنا عبر عند البسط بقوله :« صافّات » وعند القبض بقوله :« يقبضن » « ١ ».

_
(١) - هذا جواب عن سؤال حاصله : لما ذا عبر القرآن بقوله :(صافات ويقبضن) مخالفا بين اللفظين ولم يأت بهما فعلين أو اسمين ؟ ومحور الجواب أن اسم الفاعل يدل على الدوام والاستمرار والفعل يدل على الحدوث والتجدد، والصف أى : البسط كثير دائم عند الطيران، والقبض قليل غير متجدد.


الصفحة التالية
Icon